فإنه عند الشافعي طاهر وليس بمطهر، وقال مالك والثوري يجوز الوضوء به، وقال أبو حنيفة في رواية أبي يوسف إنه نجس فههنا مسائل:
المسألة الأولى: في بيان أنه ليس بمطهر، ودليلنا قوله عليه السلام: " لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب " ولو بقي الماء كما كان طاهرا مطهرا لما كان للمنع منه معنى، ومن وجه القياس أن الصحابة كانوا يتوضؤون في الأسفار وما كانوا يجمعون تلك المياه مع علمهم باحتياجهم بعد ذلك إلى الماء، ولو كان ذلك الماء مطهرا لحملوه ليوم الحاجة، واحتج مالك بالآية والخبر والقياس. أما الآية فمن وجهين: الأول: قوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) * وقوله: * (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) * (الأنفال: 11) فدلت الآية على حصول وصف المطهرية للماء، والأصل في الثابت بقاؤه، فوجب الحكم ببقاء هذه الصفة للماء بعد صيرورته مستعملا، وأيضا قوله: * (طهورا) * يقتضي جواز التطهر به مرة بعد أخرى والثاني: أنه أمر بالغسل مطلقا في قوله: * (فاغسلوا) * (المائدة: 6) واستعمال كل المائعات غسل، لأنه لا معنى للغسل إلا إمرار الماء على العضو، قال الشاعر:
فمن اغتسل بالماء المستعمل فقد أتى بالغسل، فوجب أن يكون مجزئا له لأنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة وأما السنة فما روي أنه عليه السلام " توضأ فمسح رأسه بفضل ما في يده " وعنه عليه السلام: " أنه توضأ فأخذ من بلل لحيته فمسح به رأسه " وعن ابن عباس أنه عليه السلام: " اغتسل فرأى لمعة في جسده لم يصبها الماء، فأخذ شعرة عليها بلل فأمرها على تلك اللمعة ". وأما القياس فإنه ماء طاهر لقي جسدا طاهرا فأشبه ما إذا لقي حجارة أو حديدا، وكذا الماء المستعمل في الكرة الرابعة والمستعمل في التبرد والتنظيف، ولأنه لا خلاف أنه إذا وضع الماء على أعلى وجهه وسقط به فرض ذلك الموضع، ثم نزل ذلك الماء بعينه إلى بقية الوجه فإنه يجزيه مع أن ذلك الماء صار مستعملا في أعلى الوجه.
المسألة الثانية: الدليل على أن الماء المستعمل طاهر قوله تعالى: * (وأنزلنا من المساء ماء طهورا) * ومن السنة أنه عليه السلام: أخذ من بلل لحيته ومسح به رأسه، وقال: " خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه " وقال الشافعي: إنه عليه السلام توضأ ولا شك أنه أصابه ما تساقط منه، ولم ينقل أنه غير ثوبه ولا أنه غسله، ولا أحد من المسلمين فعل ذلك، فثبت أنهم أجمعوا على أنه ليس بنجس، ولأنه ماء طاهر لقي جسما طاهرا فأشبه ما إذا لاقى حجارة.
المسألة الثالثة: الماء المستعمل إما أن يكون مستعملا في أعضاء الوضوء أو في غسل الثياب، أما المستعمل في أعضاء الوضوء فإما أن يكون مستعملا فيما كان فرضا وعبادة، أو فيما كان فرضا ولا يكون عبادة، أو فيما كان عبادة ولا يكون فرضا، أو فيما لا يكون فرضا ولا عبادة.
أما القسم الأول: وهو المستعمل فيما كان فرضا وعبادة فهو غير مطهر باتفاق أصحاب الشافعي.
وأما القسم الثاني: فهو كالماء الذي استعملته الذمية التي تحت الزوج المسلم، أي في غسل