في اللوح المحفوظ وأطلع الملائكة عليه، لو صار مؤمنا لصار الخبر الصدق كذبا، ولصار العلم جهلا ولصارت الكتابة المثبتة في اللوح المحفوظ باطلة، ولصار اعتقاد الملائكة جهلا وكل ذلك محال ومستلزم المحال محال، فصدور الإيمان منه محال، فدل على أن السعيد لا يمكنه أن ينقلب شقيا، والشقي لا يمكنه أن ينقلب سعيدا، ومن وجه آخر هو أنهم ذكروا أن الله تعالى آتاهم أسباب الضلال وهو إعطاء المرادات في الدنيا واستغراق النفس فيها، ودلت الآية على أن ذلك السبب بلغ مبلغا يوجب البوار، فإن ذكر البوار عقيب ذلك السبب يدل على أن البوار إنما حصل لأجل ذلك السبب، فرجع حاصل الكلام إلى أنه تعالى فعل بالكافر ما صار معه بحيث لا يمكنه ترك الكفر، وحينئذ ظهر أن السعيد لا ينقلب شقيا، وأن الشقي لا ينقلب سعيدا.
أما قوله تعالى: * (فقد كذبوكم بما تقولون) * فاعلم أنه قرىء * (يقولون) * بالياء والتاء، فمعنى من قرأ بالتاء فقد كذبوكم بقولكم إنهم آلهة، أي كذبوكم في قولكم إنهم آلهة، ومن قرأ بالياء المنقوطة من تحت، فالمعنى أنهم كذبوكم (بقولكم) * (سبحانك) *، ومثاله قولك كتبت بالقلم. أما قوله: * (فما تستطيعون صرفا ولا نصرا) * فاعلم أنه قرىء * (يستطيعون) * بالياء والتاء أيضا، يعني فما تستطيعون أنتم يا أيها الكفار صرف العذاب عنكم، وقيل الصرف التوبة، وقيل الحيلة من قولهم إنه ليتصرف، أي يحتال أو فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب (و) أن يحتالوا لكم.
أما قوله تعالى: * (ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرىء * (يذقه) * بالياء وفيه ضمير الله تعالى أو ضمير (الظلم).
المسألة الثانية: أن المعتزلة تمسكوا بهذه الآية في القطع بوعيد أهل الكبائر، فقالوا ثبت أن (من) للعموم في معرض الشرط، وثبت أن الكافر ظالم لقوله: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) والفاسق ظالم لقوله: * (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) * (الحجرات: 11) فثبت بهذه الآية أن الفاسق لا يعفى عنه، بل يعذب لا محالة والجواب: أنا لا نسلم أن كلمة (من) في معرض الشرط للعموم، والكلام فيه مذكور في أصول الفقه، سلمنا أنه للعموم ولكن قطعا أم ظاهرا؟ ودعوى القطع ممنوعة، فإنا نرى في العرف العام المشهور استعمال صيغ العموم، مع أن المراد هو الأكثر، أو لأن المراد أقوام معينون، والدليل عليه قوله تعالى: * (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * (البقرة: 6) ثم إن كثيرا من الذين كفروا قد آمنوا فلا دافع له إلا أن يقال قوله: * (الذين كفروا) * وإن كان يفيد العموم، لكن المراد منه الغالب أو المراد منه أقوام مخصوصون، وعلى التقديرين ثبت أن استعمال ألفاظ العموم في الأغلب عرف ظاهر، وإذا كان كذلك كانت دلالة هذه الصيغ على العموم دلالة ظاهرة لا قاطعة، وذلك لا ينفي تجويز العفو. سلمنا دلالته قطعا، ولكنا أجمعنا على أن قوله: * (ومن يظلم منكم) * مشروط بأن لا يوجد ما يزيله، وعند هذا نقول هذا مسلم، لكن لم قلت بأن لم يوجد ما يزيله؟ فإن العفو عندنا أحد الأمور التي تزيله، وذلك هو أحد الثلاثة أول المسألة سلمنا