اعلم أن تقدير النظم بلغ أيها الرسول وأطيعوه أيها المؤمنون، فقد وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات أي الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح أن يستخلفهم في الأرض فيجعلهم الخلفاء والغالبين والمالكين كما استخلف عليها من قبلهم في زمن داود وسليمان عليهما السلام وغيرهما، وأنه يمكن لهم دينهم وتمكينه ذلك هو أن يؤيدهم بالنصرة والإعزاز ويبدلهم من بعد خوفهم من العدو أمنا بأن ينصرهم عليهم فيقتلوهم ويأمنوا بذلك شرهم، فيعبدونني آمنين لا يشركون بي شيئا ولا يخافون * (ومن كفر) * أي من بعد هذا الوعد وارتد * (فأولئك هم الفاسقون) *.
واعلم أن هذه الآية مشتملة على بيان أكثر المسائل الأصولية الدينية فلنشر إلى معاقدها:
المسألة الأولى: قوله تعالى: * (وعد الله الذين آمنوا منكم) * يدل على أنه سبحانه متكلم لأن الوعد نوع من أنواع الكلام والموصوف بالنوع موصوف بالجنس، ولأنه سبحانه ملك مطاع والملك المطاع لا بد وأن يكون بحيث يمكنه وعد أوليائه ووعيد أعدائه فثبت أنه سبحانه متكلم.
المسألة الثانية: الآية تدل على أنه سبحانه يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافا لهشام بن الحكم، فإنه قال لا يعلمها قبل وقوعها ووجه الاستدلال به أنه سبحانه أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إخبارا على التفصيل وقد وقع المخبر مطابقا للخبر ومثل هذا الخبر لا يصح إلا مع العلم.
المسألة الثالثة: الآية تدل على أنه سبحانه حي قادر على جميع الممكنات لأنه قال: * (ليستخلفنهم في الأرض وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) * وقد فعل كل ذلك وصدور هذه الأشياء لا يصح إلا من القادر على كل المقدورات.
المسألة الرابعة: الآية تدل على أنه سبحانه هو المستحق للعبادة لأنه قال * (يعبدونني) *، وقالت المعتزلة الآية تدل على أن فعل الله تعالى معلل بالغرض لأن المعنى لكي يعبدوني وقالوا أيضا الآية دالة على أنه سبحانه يريد العبادة من الكل، لأن من فعل فعلا لغرض فلا بد وأن يكون مريدا لذلك الغرض.
المسألة الخامسة: دلت الآية على أنه تعالى منزه عن الشريك لقوله: * (لا يشركون بي شيئا) * وذلك يدل على نفي الإله الثاني، وعلى أنه لا يجوز عبادة غير الله تعالى سواء كان كوكبا كما تقوله الصابئة أو صنما كما تقوله عبدة الأوثان.
المسألة السادسة: دلت الآية على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن الغيب في قوله: * (ليستخلفنهم في الأرض وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) * وقد وجد هذا المخبر موافقا للخبر ومثل هذا الخبر معجز، والمعجز دليل الصدق فدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم.
المسألة السابعة: دلت الآية على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان، خلافا للمعتزلة لأنه عطف العمل الصالح عن الإيمان والمعطوف خارج عن المعطوف عليه.