وجل لا يجوز أن يكون محدثا، فوجب تأويل لفظ القدوم وهو من وجوه: أحدها: * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل) * أي وقصدنا إلى أعمالهم، فإن القادم إلى الشيء قاصد له، فالقصد هو المؤثر في المقدوم إليه وأطلق المسبب على السبب مجازا وثانيها: المراد قدوم الملائكة إلى موضع الحساب في الآخرة، ولما كانوا بأمره يقدمون جاز أن يقول * (وقدمنا) * على سبيل التوسع ونظيره قوله: * (فلما آسفونا انتقمنا منهم) * (الزخرف: 55) وثالثها: * (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها) * (النمل: 34) فلما أباد الله أعمالهم وأفسدها بالكلية صارت شبيهة بالمواضع التي يقدمها الملك فلا جرم قال * (وقدمنا) *.
أما قوله: * (إلى ما عملوا من عمل) * يعني الأعمال التي اعتقدوها برا وظنوا أنها تقربهم إلى الله تعالى، والمعنى إلى ما عملوا من أي عمل كان.
أما قوله: * (فجعلناه هباء منثورا) * فالمراد أبطلناه وجعلناه بحيث لا يمكن الانتفاع به كالهباء المنثور الذي لا يمكن القبض عليه ونظيره قوله تعالى: * (كسراب بقيعة) * (النور: 39) * (كرماد اشتدت به الريح) * (إبراهيم: 18) * (كعصف مأكول) * (الفيل: 5) قال أبو عبيدة والزجاج: الهباء مثل الغبار يدخل من الكوة مع ضوء الشمس. وقال مقاتل: إنه الغبار الذي يستطير من حوافر الدواب.
أما قوله: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) * فاعلم أنه سبحانه لما بين حال الكفار في الخسار الكلي والخيبة التامة شرح وصف أهل الجنة تنبيها على أن الحظ كل الحظ في طاعة الله تعالى، وههنا سؤالات:
الأول: كيف يكون أصحاب الجنة خيرا مستقرا من أهل النار، ولا خير في النار، ولا يقال في العسل هو أحل من الخل؟ والجواب من وجوه: الأول: ما تقدم في قوله: * (أذلك خير أم جنة الخلد) * (الفرقان: 15) والثاني: يجوز أن يريد أنهم في غاية الخير، لأن مستقر خير من النار، كقول الشاعر: فإن الذي سمك السماء بنى لنا * بيتا دعائمه أعز وأطول الثالث: التفاضل الذي ذكر بين المنزلتين إنما يرجع إلى الموضع، والموضع من حيث إنه موضع لا شر فيه الرابع: هذا التفاضل واقع على هذا التقدير، أي لو كان لهم مستقر فيه خير لكان مستقر أهل الجنة خيرا منه.
السؤال الثاني: الآية دلت على أن مستقرهم غير مقيلهم فكيف ذلك؟ والجواب من وجوه: الأول: أن المستقر مكان الاستقرار، والمقيل زمان القيلولة، فهذا إشارة إلى أنهم من المكان في أحسن مكان، ومن الزمان في أطيب زمان الثاني: أن مستقر أهل الجنة غير مقيلهم، فإنهم يقيلون في الفردوس، ثم يعودون إلى مستقرهم الثالث: أن بعد الفراغ من المحاسبة والذهاب إلى الجنة يكون الوقت وقت القيلولة، قال ابن مسعود: " لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار " وقرأ ابن مسعود: (ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم).