أما قوله: * (وأنا على ذلكم من الشاهدين) * ففيه وجهان: الأول: أن المقصود منه المبالغة في التأكيد والتحقيق كقول الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه أشهد أنه كريم أو ذميم. والثاني: أنه عليه السلام عنى بقوله: * (وأنا على ذلكم من الشاهدين) * ادعاء أنه قادر على إثبات ما ذكره بالحجة، وأني لست مثلكم فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة، كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم، وأما الطريقة الفعلية فهي قوله: * (وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين) * فإن القوم لما لم ينتفعوا بالدلالة العقلية عدل إلى أن أراهم عدم الفائدة في عبادتها، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": قرأ معاذ بن جبل رضي الله عنه وبالله، وقرئ تولوا بمعنى تتولوا ويقويها قوله: * (فتولوا عنه مدبرين) * فإن قلت: ما الفرق بين الباء والتاء؟ قلت: إن الباء هي الأصل والتاء بدل من الواو المبدل منها والتاء فيها زيادة معنى وهو التعجب، كأنه تعجب من تسهيل الكيد على يده لأن ذلك كان أمرا مقنوطا منه لصعوبته.
المسألة الثانية: إن قيل لماذا قال: * (لأكيدن أصنامكم) * والكيد هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به وذلك لا يتأتى في الأصنام. وجوابه: قال ذلك توسعا لما كان عندهم أن الضرر يجوز عليها، وقيل: المراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل قد أنزل بهم الغم.
المسألة الثالثة: في كيفية أول القصة وجهان: أحدهما: قال السدي: كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم عليه السلام: لو خرجت معنا فخرج معهم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال إني سقيم أشتكي رجلي فلما مضوا وبقي ضعفاء الناس نادى وقال: * (تالله لأكيدن أصنامكم) * واحتج هذا القائل بقوله تعالى: * (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) *. وثانيها: قال الكلبي: كان إبراهيم عليه السلام من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضا فلما هم إبراهيم بالذي هم به من كسر الأصنام نظر قبل يوم العيد إلى السماء فقال لأصحابه: أراني أشتكي غدا فذلك قوله؛ * (فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم) * (الصافات: 88، 89) وأصبح من الغد معصوبا رأسه فخرج القوم لعيدهم ولم يتخلف أحد غيره فقال: أما والله لأكيدن أصنامكم، وسمع رجل منهم هذا القول فحفظه عليه ثم إن ذلك الرجل أخبر غيره وانتشر ذلك في جماعة فلذلك قال تعالى: * (قالوا سمعنا فتى يذكرهم) * واعلم أن كلا الوجهين ممكن. ثم تمام القصة أن إبراهيم عليه السلام لما دخل بيت الأصنام وجد سبعين صنما مصطفة، وثم صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وكان في عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسرها كلها بفأس في يده حتى لم يبق إلا الكبير، ثم علق الفأس في عنقه.
أما قوله تعالى: * (فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: إن قيل لم قال: * (فجعلهم جذاذا) * وهذا جمع لا يليق إلا بالناس، جوابه: من حيث اعتقدوا فيها أنها كالناس في أنها تعظم ويتقرب إليها، ولعل كان فيهم من يظن أنها تضر وتنفع.