فحصل له بهذا الطريق إثبات الصانع تعالى وصار من زمرة المستدلين، ومنهم من ضم إلى تلك الدرجة البحث عن أحوال العالم العلوي والعالم السفلي على سبيل التفصيل فيظهر له في كل نوع من أنواع هذا العالم حكمة بالغة وأسرار عجيبة، فيصير ذلك جاريا مجرى البراهين المتواترة والدلائل المتوالية على عقله، فلا يزال ينتقل كل لحظة ولمحة من برهان إلى برهان آخر، ومن دليل إلى دليل آخر، فلكثرة الدلائل وتواليها أثر عظيم في تقوية اليقين وإزالة الشبهات. فإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذه الفوائد والأسرار لا لتكثير النحو الغريب والاشتقاقات الخالية عن الفوائد والحكايات الفاسدة، ونسأل الله العون والعصمة.
المسألة الرابعة: الأمر المذكور في قوله: * (مسخرات بأمره) * قد فسرناه بما سبق ذكره، وأما المفسرون فلهم فيه وجوه: أحدها: المراد نفاذ إرادته لأن الغرض من هذه الآية تبيين عظمته وقدرته، وليس المراد من هذا الأمر الكلام، ونظيره في قوله تعالى: * (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) * (فصلت: 11) وقوله: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * (النحل: 40) ومنهم من حمل هذا الأمر على الأمر الثاني الذي هو الكلام، وقال: إنه تعالى أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة.
المسألة الخامسة: أن الشمس والقمر من النجوم فذكرهما ثم عطف على ذكرهما ذكر النجوم والسبب في إفرادهما بالذكر أنه تعالى جعلهما سببا لعمارة هذا العالم، والاستقصاء في تقريره لا يليق بهذا الموضع، فالشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل، والشمس تأثيرها في التسخين والقمر تأثيره في الترطيب، وتولد المواليد الثلاثة أعني المعادن والنبات والحيوان لا يتم ولا يكمل إلا بتأثير الحرارة في الرطوبة. ثم إنه تعالى خص كل كوكب بخاصة عجيبة وتدبير غريب لا يعرفه بتمامه إلا الله تعالى، وجعله معينا لهما في تلك التأثيرات والمباحث المستقصاة في علم الهيئة تدل على أن الشمس كالسلطان، والقمر كالنائب، وسائر الكواكب كالخدم، فلهذا السبب بدأ الله سبحانه بذكر الشمس وثنى القمر ثم أتبعه بذكر سائر النجوم.
أما قوله تعالى: * (ألا له الخلق والأمر) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه لا موجد ولا مؤثر إلا الله سبحانه والدليل عليه أن كل من أوجد شيئا وأثر في حدوث شيء. فقد قدر على تخصيص ذلك الفعل بذلك الوقت فكان خالقا، ثم الآية دلت على أنه لا خالق إلا الله لأنه قال: * (ألا له الخلق والأمر) * وهذا يفيد الحصر بمعنى أنه لا خالق إلا الله، وذلك يدل على أن كل أمر يصدر عن فلك أو ملك أو جني أو إنسي، فخالق