ثم اختلف أهل العربية في الموضع الذي تناهى إليه الاستفهام من هذا الكلام، فقال بعضهم: تناهى ذلك عند قوله: * (من ذلكم) * ثم ابتدأ الخبر عما * (للذين اتقوا عند ربهم) * فقيل: للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، فلذلك رفع الجنات. ومن قال هذا القول، لم يجز في قوله: * (جنات تجري من تحتها الأنهار) * إلا الرفع، وذلك أنه خبر مبتدأ غير مردود على قوله بخير، فيكون الخفض فيه جائزا. وهو وإن كان خبرا مبتدأ عندهم، ففيه إبانة عن معنى الخير الذي أمر الله عز وجل نبيه (ص) أن يقول للناس أؤنبئكم به؟ والجنات على هذا القول مرفوعة باللام التي في قوله: * (للذين اتقوا عند ربهم) *.
وقال آخرون منهم بنحو من هذا القول، إلا أنهم قالوا: إن جعلت اللام التي في قوله للذين من صلة الانباء جاز في الجنات الخفض والرفع: الخفض على الرد على الخير، والرفع على أن يكون قوله: * (للذين اتقوا) * خبر مبتدأ على ما قد بيناه قبل.
وقال آخرون: بل منتهى الاستفهام قوله: * (عند ربهم) * ثم ابتدأ: * (جنات تجري من تحتها الأنهار) * وقالوا: تأويل الكلام: قل أؤنبئكم بخير من ذلكم؟ للذين اتقوا عند ربهم، ثم كأنه قيل: ماذا لهم، أو ما ذاك؟ أو على أنه يقال: ماذا لهم أو ما ذاك؟ فقال: هو جنات تجري من تحتها الأنهار... الآية.
وأولي هذه الأقوال عندي بالصواب قول من جعل الاستفهام متناهيا عند قوله:
* (بخير من ذلكم) * والخبر بعده مبتدأ عمن له الجنات بقوله: * (للذين اتقوا عند ربهم جنات) * فيكون مخرج ذلك مخرج الخبر، وهو إبانة عن معنى الخير الذي قال: أنبئكم به؟
فلا يكون بالكلام حينئذ حاجة إلى ضمير.
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: وأما قوله: * (خالدين فيها) * فمنصوب على القطع، ومعنى قوله: * (للذين اتقوا) * للذين خافوا الله فأطاعوه، بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه. * (عند ربهم) * يعني بذلك: لهم جنات تجري من تحتها الأنهار عند ربهم، والجنات: البساتين، وقد بينا ذلك بالشواهد فيما مضى، وأن قوله: * (تجري من تحتها