لأن منه ما هو شديد البياض، ومنه ما هو أصفر، ومنه ما يضرب إلى الحمرة، وذلك أن النحل تتناول ألوانا مختلفة من النبات والزهر، فيجعلها الله تعالى عسلا على ألوان مختلفة، يخرج من بطونها إلا أنها تلقيه من أفواهها، كالريق الذي يخرج من فم ابن آدم. وإنما قال سبحانه * (من بطونها) *، ولم يقل من فيها، لئلا يظن أنها تلقيه من فيها، ولم يخرج من بطنها * (فيه شفاء للناس) * من الأدواء، عن قتادة. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: عليكم بالشفاءين: القرآن والعسل. وقيل: معناه فيه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه، عن السدي، والحسن. وروي عن مجاهد: أن الهاء في * (فيه) * راجعة إلى القرآن، أي: القرآن فيه شفاء للناس، يعني ما فيه من الحلال والحرام، والفتيا والأحكام. والأول قول أكثر المفسرين، وهو الأقوى، إذ لم يسبق للقرآن ذكر.
وفي النحل والعسل وجوه من الاعتبار، منها: اختصاصه بخروج العسل من فيه. ومنها: جعل الشفاء من موضع السم، فإن النحل يلسع. ومنها: ما ركب الله من البدائع، والعجائب فيه، وفي طباعه. ومن أعجبها أن جعل سبحانه لكل فئة يعسوبا هو أميرها، يقدمها، ويحامي عنها، ويدبر أمرها، ويسوسها، وهي تتبعه، وتقتفي أثره. ومتى فقدته انحل نظامها، وزال قوامها، وتفرقت شذر مذر، وإلى هذا المعنى فيما قال أشار أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: أنا يعسوب المؤمنين.
* (إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) * معناه: ان فيما ذكرناه من بدائع صنع الله تعالى، دلالة بينة لمن تفكر فيه. ثم بين نعمته علينا في خلقنا، وأخرجنا من العدم إلى الوجود فقال: * (والله خلقكم) * أي: أوجدكم، وأنعم عليكم بضروب النعم الدينية والدنيوية * (ثم يتوفاكم) * ويقبضكم أي: يميتكم * (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) * أي: أدون العمر وأوضعه، أي: يبقيه حتى يصير إلى حال الهرم والخرف، فيظهر النقصان في جوارحه، وحواسه، وعقله.
ورووا عن علي عليه السلام: إن أرذل العمر خمس وسبعون سنة. وروي في مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن قتادة: تسعون سنة * (لكيلا يعلم بعد علم شيئا) * أي:
ليرجع إلى حال الطفولية بنسيان ما كان علمه، لأجل الكبر، فكأنه لا يعلم شيئا مما كان علمه. وقيل: ليقل علمه بخلاف ما كان عليه في حال شبابه * (إن الله عليم) * بمصالح عباده * (قدير) * على ما يشاء من تدبيرهم، وتقدير أحوالهم.