فإذا طهرت عادت إلى بيتها في المسجد. فبينا هي في مشرقة لها في ناحية الدار، وقد ضربت بينها وبين أهلها سترا لتغتسل وتمتشط، إذ دخل عليها جبرائيل في صورة رجل شاب أمرد، سوي الخلق، فأنكرته فاستعاذت بالله منه * (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) * معناه: إني أعتصم بالرحمن من شرك، فاخرج من عندي إن كنت تقيا (سؤال): يقال كيف شرطت في التعوذ منه أن يكون تقيا، والتقي لا يحتاج أن يتعوذ منه، وإنما يتعوذ من غير التقي؟ (والجواب): إن التقي إذا تعوذ بالرحمن منه ارتدع عما يسخط الله، ففي ذلك تخويف وترهيب له، وهذا كما تقول:
إن كنت مؤمنا فلا تظلمني. فالمعنى: إن كنت تقيا فاتعظ واخرج.
وروي عن علي عليه السلام أنه قال: علمت أن التقي ينهاه التقى عن المعصية.
وقيل: إن معنى قوله * (إن كنت تقيا) * ما كنت تقيا حيث استحللت النظر إلي، وخلوت بي. فلما سمع جبرائيل عليه السلام منها هذا القول * (قال) * لها * (إنما أنا رسول ربك لأهب لك) * وقد بينا معنى القراءتين * (غلاما زكيا) * أي: ولدا طاهرا من الأدناس. وقيل: ناميا في أفعال الخير. وقيل: يريد نبيا، عن ابن عباس * (قالت) * مريم * (أنى يكون لي غلام) * أي: كيف يكون لي ولد * (ولم يمسسني بشر) * على وجه الزوجية * (ولم أك بغيا) * أي: ولم أكن زانية، وإنما قالت ذلك لأن الولد في العادة يكون من إحدى هاتين الجهتين، والمعنى: إني لست بذات زوج، وغير ذات الزوج لا تلد إلا عن فجور، ولست فاجرة، وإنما يقال للفاجرة بغي بمعنى أنها تبغي الزنا أي: تطلبه.
وفي هذه الآيات دلالة على جواز إظهار المعجزات لغير الأنبياء، لأن من المعلوم أن مريم ليست بنبية، وإن رؤية الملك على صورة البشر، وبشارة الملك إياها، وولادتها من غير وطئ إلى غيرها من الآيات التي أتاها الله بها، من أكبر المعجزات. ومن لم يجوز إظهار المعجزات على غير النبي، اختلفت أقوالهم في ذلك، قال الجبائي، وابنه: إنها معجزات لزكريا عليه السلام. وقال البلخي: إنها معجزات لعيسى على سبيل الإرهاص والتأسيس لنبوته.
* (قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا (21)، فحملته فانتبذت به، مكانا قصيا (22)