والبعد لا سبيل إلى الأول لما تبين في موضعه ان كل تأثير وتأثر جسماني فهو متوقف على نسبه وضعية مخصوصة بين المؤثر والمتأثر فبقي الثاني.
فنقول حينئذ إذا لم يكن النسبة بينهما بالملاقاة فلا بد ان يكونا على ضرب من المحاذاة والبعد فحينئذ إن كان بين المسخن والمتسخن مثلا جسم فلا يخلو اما ان يتسخن المتوسط قبل ان يتسخن المنفعل المفروض أو لم يتسخن والثاني باطل لان اثر التسخين لا يصل إلى الأبعد الأبعد وصوله إلى الأقرب ضرورة والأول يوجب المطلوب لان المتوسط لو لم يكن ملاقيا للمسخن كان بينهما متوسط آخر وننقل الكلام إلى متوسط آخر حتى ينتهى إلى المتوسط الملاقى وإن كان ملاقيا فالتسخين لا يحصل أولا من المسخن الا للجسم الملاقى ثم إلى ملاقي الملاقى بتوسط الملاقى.
فظهر ان كل تأثير وتأثر طبيعي لا يكون الا بالتماس والتلاقي.
هذا تقرير ما ذكره الشيخ في طبيعيات الشفاء واعترض عليه الإمام الرازي بان هذا يناقض ما ذكره في الفصل السابع من المقالة الثالثة من علم النفس منها حيث قال في جواب من أنكر تأدي أشباح المبصرات في الهواء من غير أن يتكيف الهواء بأنه ليس بينا بنفسه ولا ظاهرا ان كل جسم فاعل يجب ان يكون ملاقيا للملموس فان هذا وإن كان موجودا استقراء في أكثر الأجسام فليس واجبا ضرورة بل يجوز ان يكون أفعال أشياء في أشياء من غير ملاقاة فيكون أجسام تفعل بالملاقاة وأجسام تفعل لا بالملاقاة.
وليس يمكن ان يقيم أحد برهانا على استحالة هذا ولا انه يجب ان يكون بين الجسمين نسبه ووضع خاص بل يجوز ان يؤثر أحدهما في الاخر من غير ملاقاة انما يبقى ضرب من التعجب كما أنه لو كان اتفق ان كانت الأجسام كلها يفعل بعضها في بعض بمثل تلك النسبة المباينة وكان إذا اتفق ان شوهد فاعل يفعل بالملاقاة تعجب منه كما تعجب الان من مؤثر بغير ملاقاة فإذا كان هذا غير مستحيل في أول العقل وكان صحه مذهبنا المبرهن عليه يوجبه وكان لا برهان البتة ينقضه.