تكررت عليه الحجج وصرحت له الآيات، وأن انشقاق البحر ليكشف الغطاء ويبصر المرتاب، حتى لو قال له بعض الموسوسين الذين تقدمت الدنيا أو بأفكارهم وقال له: إن شق البحر من حادثة المد والجزر، وإن التوراة الرائجة لتقول: إن فرعون كان عندما يمسه العذاب يطلب من موسى وهارون أن يصليا إلى الرب إلههما ليرفع عنه العذاب ويطلب منهما البركة حينما يعبد إلههما، ويعترف بأنه أخطأ إلى الله إلههما، وأن الله هو البار وهو (أي فرعون) وشعبه هم الأشرار، انظر (خر 8، 8 و 28، و 9، 27 و 28، و 10، 16، و 12، 31 و 32).
وهذا كله يعطي أن فرعون كان في الباطن مؤمنا بالله عارفا به، ولكن الذي يمنعه عن إظهار ذلك بين العموم والانقياد لرسالة موسى إنما هو حب الملك وكبرياء السلطنة وسلطة الاستبداد.
ويقول التوراة أيضا: إن الله جل اسمه شدد قلب فرعون وغلظه فلم يطلق بني إسرائيل لكي يتمجد الله به.
والقرآن الكريم لا يعارض هذه المضامين فإنه لم يصرح بأن فرعون كان كافرا مشركا في الظاهر والباطن في جميع أيامه إلى ساعة الغرق، بل يمكن أن يكون نقل القرآن الكريم لقول فرعون: (لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) إنما هو نقل لمجاهرة فرعون بما كان يكتمه من الإيمان والتوحيد بعد أن كان يحافظ على سطوته ومملكته بالمكابرة والمجاهرة بالشرك، ولكنه لما رأى العذاب والغرق أعلن وجاهر بالأيمان والتوحيد، أما ندما وتوبة، وأما رجاء للنجاة من العذاب، والعود ولو إلى بعض ثروته، بل ولو إلى مجرد الحياة..
وهب أنه كان كافرا في الظاهر والباطن ولكنه لا يبعد إيمانه بعد ما رأى الآيات وحاق به العذاب فبصرته الشدة ورفعت عن بصيرته غشاوة غرور الملك وأبهة السطوة وترف العيش، وإن كان المتكلف يستبعد أو لا يتصور من نحو ذلك شيئا فليستبعد أو لا يتصور إيمان (بولس) رسوله فإنه يعترف بأنه كان مضطهدا للمؤمنين بالمسيح ومجدفا - أي متكلما بكلام الكفر - ومفتريا (1 تي 1، 13)، ويعاقب القديسين ويضطرهم إلى التجديف - أي كلام الكفر (1 ع 26، 11).