إبراهيم، وتلا عليهم الآيات المصرحة بذلك، فلو كان في ذلك خدشة لصالوا على دعوته بذلك وجعلوه برهانا على تكذيبه في دعوته الثقيلة على أهوائهم، ولم يلتجئوا إلى المكابرة بنسبة الجنون إلى قدسه مع أنهم كانوا يعاملونه من حيث الكمالات معاملتهم لأكمل البشر وأعقلهم (فإن قلت): إنهم عرب خالون من المعارف، فتزوج فيهم مثل هذه الدعوى (قلت): إن كل من له إلمام بفلسفة القبائل ومعرفة أحوال العرب يعلم أنه لهم المعرفة التامة في تاريخ قديمهم وآثار آبائهم وأسباب شرفهم، بل كان ذلك من أهم معارفهم عندهم الرائجة بينهم.
ولا تقل: إن روج ذلك سهل بين الإسماعيليين لأنه يتعلق بمجدهم، وذلك لأن القحطانيين لو وجدوا أدنى سبيل لمنعه لمنعوه ولم يتركوا الإسماعيليين يفخرون عليهم بذلك، فإنهم من قديم الدهر وحديثه لا يزالون يفاخرون الإسماعيليين وينافرونهم.
ومن ذلك تعلم أن تسليم القحطانيين لهذه الحقيقة برهان كاف على أنها لا تختلج فيها الأوهام إلا إذا أقحمتها العصبية وقلة المبالاة.
ولئن علقت نفسك بإهمال التوراة الرائجة لهذه الحقيقة، ولم يزح ما قدمناه شكوك شبهاتك، فلا تحتفل بإهمال التوراة، فإن العهد الجديد يشهد بأنها قد أهملت أهم تاريخ إبراهيم وألزم شؤونه بالذكر فيما هي بصدده، وهو بدء الدعوة وظهور الله له في أرض الكلدانيين فيما بين النهرين، وأمره له بالهجرة من وطنه.
فقد جاء في أعمال الرسل كتاب إلهام المسيحيين عن استفانوس المذكور أنه مملوء من الإيمان والروح القدس والقوة بحيث يصنع عجائب وآيات عظيمة في الشعب (10 ع 6، 5 - 9) أنه قال: ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم وهو فيما بين النهرين قبل ما سكن في حاران وقال له: اخرج من أرضك ومن عشيرتك وهلم إلى الأرض التي أريك، فحينئذ خرج من أرض الكلدانيين وسكن في حاران (1 ع 7، 2 - 5).