إلا أن تحبه، ركب الله في طبعه النبل منذ الحداثة، وتجلى في خلاله الكرم طوال عمره، ثم طبعه على العمل ونفاذ الهمة وصراحة البأس، وآتاه سر الفروسية وجرأة الليث، وكل أولئك في رقة قلب وصدق إيمان وكرم فعال يليق بالفروسية المسيحية، ثم سار علي خصومته وخلافته وسياسته على ضوء هذه الأخلاق، فما قارف الأثرة، ولا حاول الفرقة، ولا راقب الفرصة، ولا أثار العصبية، ولا استخدم المال، وإنما أخلص النية للعمرين، ومحض النصيحة لعثمان، وأعذر بالحجة لمعاوية. ولكن دنيا الفتوح كانت قد أخذت على عهده تتجاهل دين البساطة والزهد، ولم تعد السياسة الدينية وحدها قادرة على كبح النفوس المفتونة بمال معاوية في الشام، وثراء الرافدين في العراق، فانتشر أمره وانصدعت خلافته، ثم قتل مظلوما في محرابه، فكان محياه ومماته تاريخا داميا للفضيلة المعذبة والنفس المطمئنة الشهيدة. ثم ورث بنيه وأهليه ذلك العزم الثائر وهذا المجد الثائر، فذب الموت للحسن سرا في كأس مذعوفة، وقتل الحسين قتلة لا يزال يرعد من هولها الدهر.
وتلاحقت الفواجع الأموية فصرع زيد وقتل يحيى، وأفتنت المنايا الرواصد في اختلاج بني علي، وهم يقابلون هول الغوائل الظاهرة والباطنة بالشجاعة والصبر والاحتساب، حتى أسفرت حول وجوههم طفاوة من التنزيه والتقديس وتخللت محبتهم قلوب المسلمين، ولا سيما الشيعة، فإن ندمهم على خذلانهم إياهم، وألمهم لما رأوا من اضطهادهم وأذاهم، رفعا في نفوسهم ذلك الحب.
إلى أن قال في ص 186:
كان علي كرم الله وجهه قوي العضل، صادق البأس، شجاع القلب لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه. وكان حجة في الفقه، قدوة في الورع، شديد الشكيمة في الحق، قوي الثقة بالنفس، لا يعرف الهوادة في الدين ولا المرونة في