نور الأفهام في علم الكلام - السيد حسن الحسيني اللواساني - ج ١ - الصفحة ٤٩٤
الخندق من جانب البر إلى جانب الحصن، وكان بابه قطعة حجر منقور في صخر كأكبر حجر رحى، لا يفتحه ولا يسده عند الحاجة إلا أربعون رجلا قويا، وفي وسطه ثقب خفيف، فدنا منه علي (عليه السلام) ورمى القوس من يده ومد إصبعيه من اليد اليسرى وأدخلهما في الثقب، وشد بقوة ملكوتية حتى قلع الباب من أصله بعدما هزه، ورجت الحصون السبع كلها بهزه، فارتفعت أصوات اليهود بالزعقات والعجيج، وهم بين صارخ ومدهوش وباك ومجروح، بسقوطهم من أعالي الأماكن والقصور، وإحداهم صفية بنت حي بن أخطب رئيس اليهود التي أسلمت بعد السبي، وتزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنها سقطت من علا سريرها بتلك الهزة وشج جبينها [٢٨] وقد أشار ابن أبي الحديد الشافعي إلى تلك الوقعة مخاطبا له (عليه السلام) بقوله في قصيدته العينية:
يا قالع الباب الذي عن هزه * عجزت أكف أربعون وأربع لولا حدوثك قلت إنك جاعل * الأرواح في الأشباح والمتنزع لي فيك معتقد سأكشف سره * فليصغ أرباب النهى وليسمعوا والله لولا حيدر ما كانت * الدنيا ولا جمع البرية مجمع بل أنت في يوم القيامة حاكم * بين الأنام وشافع ومشفع [٢٩] إلى آخره.
وبالجملة، بعد ما ضاق الفضاء من صريخ اليهود، دخل علي (عليه السلام) مدينتهم، وقد تترس بحجر الباب، وقد رفعه بيده اليسرى فوق رأسه، وهجم على جموعهم بيمناه كالليث الغضوب، وهم قد حملوا عليه (عليه السلام) بأجمعهم، رجالهم ونساؤهم، صغيرهم وكبيرهم، حملة رجل واحد، رميا بالسهام والنيران، وقذفا بالأخشاب والأحجار، وهو يحمل مرة عن يمينه ويرتجز بقوله (عليه السلام):
أنا علي وابن عبد المطلب * مهذب ذو سطوة وذو غضب قرن إذا لاقيت قرنا لم أهب * أخو النبي المصطفى والمنتجب رسول رب العالمين قد غلب * بينه رب السماء في الكتب إلى قوله (عليه السلام):
من بيت عز ليس فيه منشعب * وفي يميني صارم يجلو الكرب من يلقني يلق المنايا والعطب * إذ كف مثلي بالرؤوس يلتعب أحمي ذماري وأذب عن حسب * والموت خير للفتى من الهرب ثم يحمل ثانية عن يساره وهو يرتجز بقوله (عليه السلام):
أنا علي البطل المظفر * غشمشم القلب بذاك أذكر وفي يميني للقاء أخضر * يلمع من حافة برق يزهر للضرب والطعن الشديد محضر * مع النبي الطاهر المطهر اختاره الله العلي الأكبر * اليوم يرضيه ويخزي عنتر ثم يهجم عليهم ثالثة مرتجزا بقوله (عليه السلام):
أنا علي هازم العساكر * أنا الذي أضربكم وناصري إله حق وله مهاجري * أضربكم بالسيف في المصاغر مع ابن عمي والسراج الزاهر * حتى تدينوا للعلي القاهر ضرب غلام صارم مماهر * ينصرني ربي خير ناصر آمنت بالله بقلب شاكر * أضرب بالسيف على المغافر ثم يحمل عليهم رابعة وهو يقول:
ستشهد لي بالكر والطعن راية * حباني بها الطهر النبي المهذب وتعلم أني في الحروب إذا التظت * بنيرانها الليث الهموس المجرب ومثلي لاقى الهول في مفظعاته * وفل له الجيش الخميس العطبطب وقد علم الأحياء أني زعيمها * وأني لدى الحرب العذيق المرجب [٣٠] * إلى أن قتل منهم مقتلة عظيمة لم يلق منهم فارسا إلا طحنه، ولا بطلا إلا ردمه، ولم يزل يفتح الحصون واحدا بعد واحد بنفسه المقدسة وحده، إلى أن سخرها بأجمعها، ورجع خارجا منها، فتلقاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وضمه إلى صدره، وقبله مستبشرا به، وبشره برضا الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه، فبكي (عليه السلام) فرحا بذلك. ثم وقف في الخندق، حاملا للحجر فوق رأسه كالجسر بين حافتي الخندق، حتى عبر عليه كافة المسلمين بأحمالهم ودوابهم عليه، من جانب البر إلى جانب الحصون، ثم رمى الحجر بيسراه إلى الخلف، فطار الحجر في الجو فوق رؤوس العساكر، ووقع ورائهم بعيدا عنهم، مسافة أربعين ذراعا، وبعد ذلك اجتمع عليه سبعون نسمة من الأشداء ليحركوه، فلم يقدروا عليه، وأنشأ بعضهم في ذلك:
إن امرءا حمل الرتاج [٣١] بخيبر * يوم اليهود بقدرة لمؤيد حمل الرتاج رتاج باب قموصها [٣٢] * والمسلمون وأهل خيبر حشد فرمى به ولقد تكلف رده * سبعون شخصا كلهم متشدد ردوه بعد تكلف ومشقة * ومقال بعضهم لبعض أرددوا [٣٣] وقال الآخر منهم:
بعث النبي براية منصورة * عمر بن حنتمة الدلام الأدلما [٣٤] فمضى بها حتى إذا برزوا له * دون القموص ثنى وهاب وأحجما وأتى النبي براية مردودة * هلا تخوف عارها فتذمما فبكى النبي لها وأنبه بها * ودعا امرءا حسن البصيرة مقدما فغدا بها في فيلق ودعا له * ألا يصد بها وألا يهزما فزوى اليهود إلى القموص وقد كسا * كبش الكتيبة ذا غرار [٣٥] مخذما [٣٦] [٣٧] وقال الشيخ الأزري (قدس سره) في ذلك:
وله يوم خيبر فتكات * كبرت منظرا على من رءاها يوم قال النبي إني لأعطي * رايتي ليثها وحامي حماها فاستطالت أعناق كل فريق * ليروا أي ماجد يعطاها فدعا أين وارث العلم والحلم * مجير الأنام من بأساها أين ذو النجدة الذي لو دعته * في الثريا مروعة لباها فأتاه الوصي أرمد عين * فسقاها من ريقه وشفاها ومضى يطلب الصفوف فولت * عنه علما بأنه أمضاها وبرى مرحبا بكف اقتدار * أقوياء الأقدار من ضعفاها ورمى بابها بقوة بأس * لو حمتها الأفلاك منه رماها (١) المناقب (لابن شهرآشوب) ٢: ٢٩٤ في نواقض العادات منه، وحلية الأبرار (البحراني) ٢: ١٧٠.
(٢) انظر الصراط المستقيم (الآملي) ٢: ٦، وفيه: عن بعض الصحابة، بحار الأنوار ٤١: ٢٨٠.
[٣] حكاه عنهما ابن شهر آشوب في المناقب ٣: ١٢٧.
[٤] انظر المناقب (لابن شهر آشوب) ٣: ١٢٧ في مقامه (عليه السلام) في غزاة خيبر.
[٥] حكاه عن النطنزي في المناقب (لابن شهر آشوب) ٣: ١٢٧، أنساب الأشراف ٦: ٣٥٥.
[٦] تفسير الثعلبي ٨: ١٥، حكاه عن الواحدي ابن شهرآشوب في المناقب ٣: ١٢٧.
[٧] مسند أحمد ١: ٩٩ وج ٤: ٥٢ وج ٥: ٣٣٣ وص ٣٥٨، مسند أبي يعلى ١: ١٨٣ / ٣٤٩.
[٨] فضائل الصحابة (لأحمد) ٦٠٤ / ١٠٣٤، وحكاه عن السمعاني وأبي السعادات ابن شهرآشوب في المناقب ٣: ١٢٧.
[٩] حلية الأولياء ١: ٦٢.
[١٠ و ١١ و ١٤] حكاه عنهما ابن شهرآشوب في المناقب ٣: ١٢٧ في مقامه (عليه السلام) في غزاة خيبر.
[١٢] سنن الترمذي ٥: ٣٠١ / ٣٨٠٨.
[١٣] سنن ابن ماجة ١: ٤٥ / ١٢١.
[١٥] صحيح البخاري ٥: ١٧١، غزوة خيبر.
[١٦] صحيح مسلم ٤: ١٨٧١ / ٢٤٠٤ باب فضائل الصحابة.
[١٧] تاريخ الطبري ٢: ٣٠٠.
[١٨] العبل: الضخم من كل شيء.
[١٩] القصرة بالتحريك: أصل العنق.
[٢٠] ديوان الإمام علي (عليه السلام): ٢٨٦ / ٢١٢.
[٢١] والذي يظهر للباحث أن حسانا أكمل أبياته في يوم الغدير قصيدة ضمنها نبذا من مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام)، فكل أخذ شطرا يناسب موضوعه. وروى بعض هذه الأبيات عن حسان بن ثابت الحافظ الگنجي الشافعي في كفايته: ٦٤ الباب الأول، وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة: ٣٨، ولتسهيل الخطب انظر الغدير (الأميني) ٢: ٣٤ فما بعد، وشعراء الغدير ١:
٤٨ و ٤٩.
[٢٢] الأخاشيب: الجبال.
[٢٣] أصلت: سل.
[٢٤] القضب: السيف القاطع وكذا الجراز، المقضوب: المقطوع.
[٢٥] الأحوس: الذي لا يهوله شيء، والمراد به أمير المؤمنين (عليه السلام).
[٢٦] الخرعوب: الطويل الحسن الخلق.
[٢٧] القصائد السبع العلويات (مع شرح للسيد محمد صاحب المدارك): القصيدة الأولى وأشار إليه في شرح نهج البلاغة ٨: ٢٨٩.
[٢٨] الخرائج والجرائح ١: ١٥٩ / ٢٤٩، بحار الأنوار ٢١: ٢٨.
[٢٩] القصائد السبع العلويات (مع شرحها للسيد محمد صاحب المدارك): القصيدة السادسة.
[٣٠] ديوان الإمام علي (عليه السلام): ١١٤ / ٦٣.
[٣١] الرتاج: الباب العظيم، لسان العرب ٢: ٢٧٩ (رتج).
[٣٢] القموص: جبل بخيبر عليه حصن أبي الحقيق اليهودي (معجم البلدان ٤: ٣٩٨).
[٣٣] الإرشاد (للمفيد) ١: ١٢٩.
[٣٤] الدلمة: اللون الأسود، الصحاح ٥: ١٩٢٠ (دلم).
[٣٥] الغرار: حد السيف والرمح والسهم، لسان العرب ٥: ١٦ (غرر).
[٣٦] المخذم: السيف القاطع، الصحاح ٥: ١٩١٠ (خذم).
[٣٧] انظر الإرشاد (للمفيد) ١: ١٣٠، نهج الإيمان (لابن جبر): 325.