فكان كجبل على جبل، وقد احترق أكثر الأماكن المقدسة في المدينة مثل جامع الخليفة ومشهد موسى والجواد عليها الرحمة وقبور الخلفاء.
وأخيرا أوفد سكان المدينة شرف الدين المراغي وشهاب الدين محمودا الزنجاني والملك أحمد بن عمران الباجسري دال رست أي المخلص إلى هولاكو وطلبوا الأمان، فصدر الأمر بالتوقف من بعد ذلك عن القتل والنهب لأن بغداد أصبحت ملكا لنا فليستقر الأهالي ولينصرف كل شخص إلى عمله وبذلك وجد الأمان الذين نجوا من السيف. وفي يوم الأربعاء الرابع عشر من صفر رحل هولاكو عن بغداد بسبب عفونة الهواء ونزل بقريتي الوقف والجلابية وأرسل الأمير عبد الرحمن لفتح ولاية خوزستان ثم استدعى الخليفة فأدرك هذا أن أمارات النحس تبدو على مصيره وخاف خوفا شديدا وقال للوزير ابن العلقمي: ما حيلتنا؟
فأجاب الوزير قائلا: لحيتنا طويلة. وكان مراده من ذلك أنه عند ما فكر في أول الأمر في أن ترسل أحمال وفيرة لدفع هذا البلاء قال الدواتدار مجاهد الدين: لحية الوزير طويلة. وحال دون الأخذ بهذا الرأي واستمع الخليفة لكلامه وأهمل تدبير الوزير. ويئس الخليفة من إنقاذ حياته واستأذن في أن يذهب إلى الحمام ليجدد اغتساله. فامر هولاكو خان بان يذهب مع خمسة من المغول، ولكن الخليفة قال: أنا لا أريد أن أذهب بصحبة خمسة من الزبانية، وكان ينشد بيتين أو ثلاثة من قصيدة هذا مطلعها:
وأصبحنا لنا دار * كجنات وفردوس وأمسينا بلا دار * كان لم نغن بالأمس وفي مساء الأربعاء الرابع عشر من صفر سنة 656 قضوا على الخليفة وعلى ابنه الأكبر وخمسة من الخدم كانوا في خدمته في قرية الوقف، وفي اليوم التالي قتلوا الذين كانوا قد نزلوا معه في بوابة كلواذا، كذلك قضوا على كل شخص وجدوه حيا من العباسيين اللهم إلا أفرادا قلائل لم يأبهوا لهم. وقد سلم مباركشاه الابن الأصغر للخليفة إلى أولجاي خاتون فأرسلته إلى مراغة ليكون مع الخواجة نصير الدين ثم زوجوه من امرأة مغولية فأنجب منها بولدين. وفي يوم الجمعة السادس عشر من صفر ألحقوا الابن الثاني للخليفة بوالده وأخيه وبذلك قضي على دولة خلفاء آل العباس الذين حكموا بعد بني أمية وكانت مدة خلافتهم خمسا وعشرين وخمسمائة سنة وعددهم سبعة وثلاثون خليفة حسب ما يأتي بالتفصيل. وذكر المؤرخ الخلفاء بالترتيب ثم قال: وفي نفس اليوم الذي قتلوا فيه الخليفة أرسلوا إليها مؤيد الدين ابن العلقمي ليقوم بالوزارة وفخر الدين الدامغاني ليكون صاحب الديوان وجعلوا علي بهادر شحنة لها وعينوا المحتسبين لمراقبة المقاييس والأوزان ونصبوا عماد الدين عمر القزويني نائبا للأمير قراتاي وهو الذي عمر مسجد الخليفة ومشهد موسى والجواد، وكذلك نصب نجم الدين أبو جعفر أحمد بن عمران الملقب براست دل المخلص واليا على أعمال شرقي بغداد مثل طريق خراسان والخالص البندنيجين، وأمر هولاكو بان يكون نظام الدين عبد المنعم البندنيجي قاضيا للقضاة واختار إيلكانوين وقرابوقا ومعهما ثلاثة آلاف من فرسان المغول وبعث بهم إلى بغداد ليقوموا بالعمارة في الحال وليعملوا على استتاب الأمن. ثم بادر كل شخص بدفن قتلاه وطهرت الطرق من جثث الحيوانات النافقة وعمرت الأسواق. وفي يوم الخميس التاسع والعشرين من صفر حضر إلى الدركاة شرف الدين ابن الوزير وصاحب الديوان لتلقي التعليمات ثم عادا وفي يوم الجمعة الثالث من العشرين رحل هولاكو ونزل بقية الشيخ مكارم، ومن هناك كان يسير مرحلة بعد مرحلة إلى أن بلغ معسكراته في خانقين. وفي أثناء حصار بغداد كان قدم إليه بعض العلويين والفقهاء من الحلة والتمسوا إليه أن يعين لهم شحنة.
ومما نقلنا عن الأخبار المبسوطة في فتح هولاكو لبغداد والعراق يظهر للقارئ أن مؤيد الدين ابن العلقمي كان أحد ثلاثة من أرباب دولة بني العباس أراد هولاكو حضورهم لتمثيل الدولة العباسية وبيان الأسباب في تلكؤها عن الإذعان للدولة المغولية والدخول في طاعتها، وأن اثنين من هؤلاء الثلاثة أمر بقتلهما بعد ثبوت جرمهما عندها والثالث هو الوزير ابن العلقمي نجا مع جماعة من أصحاب الدولة واستوزر فلو كان مخامرا لهولاكو ومباطنا ومراسلا ما احتاج أن يدخله في عداد الثلاثة ولا اهتم بحضوره وحمله الرسالة، فهذا يدل على أن الرضا عنه وقع بعد سؤاله عن سبب اضطراب السياسة العباسية وتقديمه في أنه كان من رأيه الطاعة للدولة المغولية التي يمثلها هولاكو واستشهاده شهودا على صدق قوله من أرباب الدولة نفسها كفخر الدين أحمد بن الدامغاني وتاج الدين علي بن الدوامي. أدب ابن العلقمي كان أبو طالب محمد بن أحمد بن العلقمي أديبا كاتبا منشئا ينظم الشعر الذي يسمى شعر المناسبات وقد حوت عدة تواريخ عدة قطع ومقطوعات من نثره وشعره، قال مؤلف الحوادث في سنة 643 وتوفيت ابنة الخليفة المستعصم بالله، اسمها عائشة وعمل لها العزاء في الرصافة على جاري العادة وأنشد الشعراء المراثي وكتب الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي إلى الخليفة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب. أجزل الله ثواب الخدمة الشريفة المقدسة النبوية الامامية المستعصمية بالله على احتسابها، وجزاها أفضل جزاء الصابرين عند جزع النفوس واكتئابها، وأفاء عليها ظلا من البقاء ظليلا، ورجع طرف الحوادث عن حوزتها الشريفة حسيرا كليلا، وعوض عمن عبر وذهب بحراسة غيره مما وهب، وجعل السادة الموالي المعظمين في حوز حياطته، وكلأهم من كل حادث بعين حفظه التي لا تنام ورعايته، وأدام للدنيا وأهلها بقاء الخدمة الشريفة واستمرار عصرها، وخلود الدولة الحالية بمضاء مراسمها العلية ونفاذ أمرها:
فإذا سلمت فكل شئ سالم * وإذا بقيت فكل شئ باقي ولا زال ملكها محروسا من الغير، لصون الموارد من الكدر، ولا أعاد إلى مواطن شرفها حادثا، ولا أنزل بمقدس ربعها اللامع خطبا كارثا:
لا روعت بعدها الخطوب لكم * سربا ولا فصلت لكم جملا كذا