متمسكا لقوانين الرئاسة، خبيرا بأدوات السياسة، لبيق الأعطاف بآلات الوزارة وكان يحب أهل الأدب، ويقرب أهل العلم، اقتنى كتبا كثيرة نفيسة. حدثني ولده شرف الدين أبو القاسم علي رح قال: اشتملت خزانة والدي على عشرة آلاف مجلد من نفائس الكتب، وصنف الناس له الكتب، فممن صنف له الصاغاني اللغوي صنف له العباب وهو كتاب عظيم كبير في لغة العرب وصنف له عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد كتاب شرح نهج البلاغة، يشتمل على عشرين مجلدا فأثابهما وأحسن جائزتهما. وكان ممدحا مدحه الشعراء، وانتجعه الفضلاء، فممن مدحه كمال الدين ابن السبوقي بقصيدة من جملتها:
مؤيد الدين أبو طالب * محمد بن العلقمي الوزير وهذا بيت حسن جمع فيه بين لقبه وكنيته واسمه واسم أبيه وصنعته.
وكان مؤيد الدين الوزير عفيفا عن أموال الديوان وأموال الرعية متنزها مترفعا قيل إن بدر الدين صاحب الموصل أهدى إليه هدية تشتمل على كتب وثياب ولطائف قيمتها عشرة آلاف دينار، فلما وصلت إلى الوزير حملها إلى خدمة الخليفة وقال: إن صاحب الموصل قد أهدى لي هذا واستحييت منه أن أرده إليه، وقد حملته وأنا أسال قبوله. فقبل ثم إنه أهدى إلى بدر الدين عوض هديته شيئا من لطائف بغداد قيمته اثنا عشر ألف دينار والتمس منه أن لا يهدي إليه شيئا بعد ذلك. وكان خواص الخليفة جميعهم يكرهونه ويحسدونه، وكان الخليفة المستعصم يعتقد فيه ويحبه، وكثروا عليه عنده، فكف يده عن أكثر الأمور، ونسبه الناس إلى أنه خامر وليس ذلك بصحيح ومن أقوى الأدلة على عدم مخامرته سلامته في هذه الدولة فان السلطان هولاكو لما فتح بغداد وقتل الخليفة سلم البلد إلى الوزير وأحسن إليه وحكمه. فلو كان قد خامر على الخليفة لما وقع الوثوق إليه. حدثني كمال الدين أحمد ابن الضحاك وهو ابن أخت الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي قال: لما نزل السلطان هولاكو على بغداد أرسل يطلب الوزير إليه. قال: فبعث الخليفة فطلب الوزير فحضر عنده وأنا معه، فقال له الخليفة: قد أنفذ السلطان يطلبك وينبغي أن تخرج إليه. فحرج الوزير من ذلك وقال: يا مولانا إذا خرجت فمن يدبر البلد ومن يتولى المهام؟
فقال له الخليفة: لا بد أن تخرج فلما حضر بين يدي السلطان وسمع كلامه وقع بموقع الاستحسان. وكان الذي تولى تربيته في الحضرة السلطانية الوزير السعيد نصير الدين محمد الطوسي قدس الله روحه فلما فتحت بغداد سلمت إليه وإلى علي بهادر الشحنة، فمكث الوزير شهورا ثم مرض ومات رح في جمادي الأولى سنة ست وخمسين وستمائة وذكره ابن كثير الدمشقي وهو أشد المؤرخين تعصبا أعمى على الشيعة وأكثرهم تخليطا عليهم، وقد نشأ في عصر كان قتل الشهيد الأول السعيد محمد بن مكي من أيسر الأمور على أهل الشام والحكام قال وهو المسؤول بين يدي الله تعالى عما قال من زور المقال: الوزير ابن العلقمي الرافضي محمد بن أحمد بن محمد بن علي بن أبي طالب الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي وزير المستعصم البغدادي. خدم في أيام المستنصر أستاذ دار الخلافة مدة طويلة ثم صار وزير المستعصم، وكان وزيرا شؤما على نفسه وعلى الخليفة وعلى المسلمين مع أنه من الفضلاء في الانشاء والآداب، وكان رافضيا خبيثا ردئ الطوية على الاسلام وأهله وقد حصل من التعظم والوجاهة في أيام المستعصم ما لم يحصل لغيره من الوزراء ثم مالأ على الاسلام وأهله، الكفار أصحاب هولاكو خان حتى فعل ما فعل بالاسلام وأهله ما فعل مما تقدم ذكره ثم حصل له بعد ذلك من الإهانة والذل على أيد التتار الذين مالأهم وزال عنه ستر الله وذاق الخزي في هذه الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشد. وقد رأته امرأة وهو في الذل والهوان وهو راكب في أيام التتار برذونا وهو مرسم عليه كذا وسائق يسوق به ويضرب فرسه فوقفت إلى جانبه فقالت: يا ابن العلقمي هكذا كان بنو العباس يعاملونك؟ فوقعت كلمتها في قلبه وانقطع في داره إلى أن مات كمدا وغبينة وضيقا وقلة وذلة في مستهل جمادى الآخرة من هذه السنة سنة 656 وله من العمر ثلاث وستون سنة ودفن بأذنيه ورأى بعينيه من الإهانة من التتار والمسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وتولى بعده ولده الخبيث الوزارة ثم أخذه الله أخذ القرى وهي ظالمة، سريعا، وقد هجاه بعض الشعراء فقال:
يا فرقة الاسلام نوحوا واندبوا * أسفا على الاسلام والمستعصم دست الوزارة كان قبل زمانه * لابن الفرات فصار لابن العلقمي قلت: ما كان أجهل هذا الشاعر السخيف القول الذي شغلته المقابلة البديعية عن الحقائق، فابن الفرات الوزير الذي مدحه وجعله أهلا للوزارة كان شيعيا أيضا وقد قتله المقتدر بالله وأعداؤه من أرباب الدولة العباسية ظلما وعدوانا، صبرا وهو صائم بعد أن قتلوا ابنه ووضعوا رأسه بين يديه، أ فكان جديرا بالوزارة وفعل به ذلك الفعل فكيف لم لو يكن بها قمينا؟.
وقال ابن كثير قبل ذلك في حوادث سنة 656 أيضا: وكان قدوم هولاكو بجنوده كلها وكانوا نحوا من مائتي ألف مقاتل في ثاني عشر المحرم من هذه السنة إلى بغداد وهو شديد الحنق على الخليفة بسبب ما كان تقدم من الأمر الذي قدره الله وقضاه وهو أن هولاكو لما برز من همذان متوجها إلى العراق أشار الوزير ابن العلقمي على الخليفة أن يبعث إليه بهدايا ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بغداد وغيرها. قالوا: فخذل الخليفة عن ذلك داواداره الصغير مجاهد الدين أيبك الشركسي وغيره وقالوا للخليفة: إن الوزير يريد بارسال الهدايا إلى ملك التتار مصانعة عن نفسه وأهله. وأشاروا بان يبعث إليه شيئا يسيرا. فأرسل الخليفة شيئا يسيرا، فاحتقره هولاكو خان وأرسل إلى الخليفة يطلب منه داواداره المذكور وسليمان شاه (الأيوقي) فلم يبعثهما إليه ولا احتفل به حتى أزف قدومه ووصل إلى بغداد بجنود كثيرة فأحاطوا ببغداد من ناحيتيها الغربية والشرقية وجنود بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة لا يبلغون عشرة آلاف فارس وهم في غاية الضعف، وبقية الجيوش كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد وأنشد فيهم الشعراء القصائد يرثون لهم ويحزنون على الاسلام وأهله، وذلك كله عن رأي الوزير ابن العلقمي الرافضي فإنه كان وزير سوء، وذلك أنه كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب شديدة نهبت فيها الكرخ محلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير ابن العلقمي فاشتد حنقه من ذلك، فكان هذا مما هاجه على الاسلام وأهله حتى أضعف عسكر المسلمين ودبر على الاسلام