منهزما. فلما وقف الخليفة على تلك الحال يئس نهائيا من الاحتفاظ ببغداد ولم ير أمامه مفرا ولا مهربا قط فقال: سأستسلم وأطيع ثم أرسل فخر الدين الدامغاني وابن الدرنوش مع قليل من التحف إلى هولاكو زاعما أنه لو بعث بالكثير لكان ذلك دليلا على خوفه فيتجرأ العود، فلم يلتفت هولاكو إلى هذه الهدايا وعادا محرومين. وفي يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من المحرم خرج من بغداد للقاء هولاكو أبو الفضل عبد الرحمن بن الخليفة الثاني، بينما ذهب الوزير ابن العلقمي إلى المدينة، وكان صاحب الديوان فخر الدين ابن الدامغاني وجماعة من العظماء مع أبي الفضل قد حملوا أموالا كثيرة، فلم تقبل منهم، وفي غد ذلك اليوم آخر المحرم خرج ابن الخليفة الأكبر أبو العباس أحمد ومعه الوزير ابن العلقمي وجماعة من المقربين للشفاعة فلم يجدوا فائدة وعادوا إلى المدينة. وقد بعث الملك الخواجة نصير الدين الطوسي وايتيمور برسالة إلى الخليفة، فخرجا في صحبة رسل بغداد غرة صفر، وأرسل فخر الدين الدامغاني الذي كان صاحب الديوان وابن الجوزي وابن الدرنوش إلى المدينة ليخرجوا سليمان شاه والدواتدار ومنحهم فرمانا وبايزة طمأنة لهم وتقوية لموقفهم وقال: إن الرأي للخليفة فله أن يخرج أو لا يخرج وسيكون جيش المغول مقيما على الأسوار إلى أن يخرج سليمان شاه والدواتدار.
وفي يوم الخميس غرة صفر خرج الرجلان فأعادهما مرة ثانية إلى المدينة ليخرجا أتباعهما حتى ينضموا إلى قوات مصر والشام، وعزم جند بغداد على الخروج معهم وكانوا خلقا لا يحصون مؤملين أن يجدوا الخلاص فقسموهم ألوفا ومئات وعشرات وقتلوهم جميعا. أما من بقي في بغداد فقد هربوا إلى الأنفاق ومواقد الحمامات ثم خرج جماعة من أعيان المدينة وطلبوا الأمان قائلين: إن ناسا كثيرين طائعون خاضعون فليمهلوا لأن الخليفة سيرسل أبناءه ويخرج بنفسه أيضا. وفي تلك الأثناء أصاب سهم عين هندو البتكجي وكان من أكابر الأمراء. فتملك هولاكو غضب عظيم وجد في الاستيلاء على بغداد وأمر الخواجة نصير الدين الطوسي أن يقيم على باب الحلبة أمانا للناس، فشرع الأهالي يخرجون من المدينة. وفي يوم الجمعة الثاني من صفر قتل الدواتدار وجئ بسليمان شاه مع سبعمائة من أقاربه وكان مكبل اليدين فاستجوبه هولاكو قائلا لقد كنت منجما ومطلعا على أحوال السعد والنحس للبلاد فكيف لم تتنبأ بسوء مصيرك ولم تنصح مخدومك لكي يبادر إلينا عن طريق الصلح؟ فأجاب سليمان شاه: لقد كان الخليفة مستبدا برأيه منكود الطالع فلم يستمع لنصح الناصحين. ثم أمر بقتله مع كافة أتباعه وأشياعه كما قتل الأمير تاج الدين ابن الدواتدار الكبير وأرسل رؤوس هؤلاء الثلاثة على يد الملك الصالح ابن بدر الدين لؤلؤ إلى الموصل وكان بدر الدين صديقا لسليمان شاه فبكى ولكنه علق رؤوسهم خوفا على حياته. وبعد أن رأى الخليفة المستعصم أن الأمر قد خرج من يده استدعى الوزير ابن العلقمي وسأله ما تدبير أمرنا؟.
فانشد الوزير هذا البيت في جوابه:
يظنون أن الأمر سهل وإنما * هو السيف حدت للقاء مضاربه وبعد خراب البصرة خرج ومعه أبناؤه الثلاثة أبو الفضل عبد الرحمن وأبو العباس أحمد وأبو المناقب مبارك وكان ذلك يوم الأحد الرابع من صفر سنة 656 وكان معه ثلاثة آلاف من السادات والأئمة والقضاة والأكابر والأعيان ثم قابل هولاكو خان فلم يبد الملك غضبا قط وكلمه بالحسنى ثم قال له: مر سكان المدينة حتى يضعوا أسلحتهم ويخرجوا لكي نحصيهم فأرسل الخليفة من ينادي في المدينة ليضع الناس أسلحتهم ويخرجوا، فألقى الناس أسلحتهم زمرا زمرا وصاروا يخرجون فكان المغول يقتلونهم ثم أمر بان تقام الخيام للخليفة وأبنائه وأتباعه بباب كلواذا في معسكر كيتو بوقا نوين ونزلوا فيها وعهدوا بحراستهم إلى عدد من المغول وكان الخليفة المستعصم ينظر بعين الحقيقة إلى هلاكه ويأسه على تركه الحزم وإبائه قول النصح قال في نفسه: لقد فاز عدوي إذ رآني قد وقعت في الشرك كالطائر الحذر. وكان بدء القتل والنهب في يوم الأربعاء السابع من صفر فاندفع الجند المغول مرة واحدة إلى بغداد وأخذوا يحرقون الأخضر واليابس ما عدا قليلا من منازل الرعاة وبعض الغرباء. وفي يوم الجمعة التاسع من صفر دخل هولاكو المدينة لمشاهدة قصر الخليفة وجلس في المثمنة واحتفل بالأمراء ثم أشار باحضار الخليفة فقال له: إنك مضيف ونحن الضيوف فهيا أحضر ما يليق بنا. فظن الخليفة أن هذا الكلام على سبيل الحقيقة وكان يرتعد من الخوف وبلغ من دهشه أنه عاد لا يعرف مكان مفاتيح الخزائن فامر بكسر عدة أقفال وأحضر لهولاكو ألفي ثوب وعشرة آلاف دينار ونفائس ومرصعات وعددا من الجواهر. فلم يلتفت هولاكو إليها ومنحها كلها للأمراء والحاضرين ثم قال للخليفة: إن الأموال التي تملكها على وجه الأرض ظاهرة وهي ملك عبيدنا لكن اذكر ما تملكه من الدفائن ما هي وأين توجد؟ فاعترف الخليفة بوجود حوض مملوء بالذهب في ساحة القصر، فحفروا الأرض حتى وجدوه كان ملآنا بالذهب الأحمر وكان كله سبائك تزن الوحدة مائة مثقال. بعد ذلك صدر الأمر باحصاء نساء الخليفة فعدوا سبعمائة زوجة وسرية وألف خادمة فلما اطلع الخليفة على تعداد نسائه تضرع فقال لهولاكو: من علي باهل حرمي اللائي لم تطلع عليهن الشمس ولا القمر. فقال له هولاكو: اختر مائة من هذه النساء السبعمائة واترك الباقي. فاخرج الخليفة معه مائة امرأة من أقاربه والمحببات إليه. ثم رجع هولاكو خان إلى المعسكر ليلا. وفي الصباح أمر بان يسير سونجاق إلى المدينة وأن يعتبر أموال الخليفة ويخرجها. وقصارى القول أن كل ما كان للخلفاء قد جمعوه خلال خمسة قرون وضعه المغول بعضه على بعض