جميع العالم مغترا بيومين من الاقبال متوهما أن أمره قضاء مبرم، وأمر محكم، لما ذا تطلب مني شيئا لم تجده عندي كيف يمكن أن تتحكم في النجم وتقيده بالرأي والجيش والسلام. ألا ليعلم الأمير أنه من الشرق إلى الغرب، ومن الملوك إلى الشحاذين ومن الشيوخ إلى الشباب ممن يؤمنون بالله ويعملون بالدين، كلهم عبيد هذا البلاط وجنود لي، إنني حينما أشير بجمع الشتات سأبدأ بحسم الأمور في إيران ثم أتوجه منها إلى بلاد توران وأضع كل شخص في موضعه وعندئذ سيصير وجه الأرض جميعه مملوءا بالقلق والاضطراب غير أني لا أريد الحقد والخصام ولا أن أشتري ضرر الناس وإيذاءهم كما أنني لا أبغي من وراء تردد الجيوش أن تلهج ألسنة الرعية بالمدح أو القدح، خصوصا أنني مع الخاقان وهولاكو خان قلب واحد ولسان واحد، وإذا كنت مثلي تزرع بذور المحبة فما شأنك بخنادق رعيتي وحصونهم، فاسلك طريق الود وعد إلى خراسان وإن كنت تريد الحرب والقتال فلا تتوان لحظة ولا تعتذر إذا استقر رأيك على الحرب، إن لي ألوفا مؤلفة من الفرسان والرجالة وهم متأهبون للقتال وإنهم ليثيرون الغبار من ماء البحر وقت الحرب والطعان.
وعلى هذا النحو بلغ الرسالة وصرف الرسل مع بعض التحف والهدايا، وحينما خرج الرسل من المدينة بغداد وجدوا الصحراء كلها ممتلئة بالرعاع فأطلقوا ألسنتهم بسب هؤلاء الرسل وبادروهم بالسفاهة وأخذوا يمزقون ثيابهم ويبصقون في وجوههم لعلهم يقولون شيئا يتخذونه ذريعة لايذائهم والاعتداء عليهم. فلما علم الوزير ابن العلقمي بذلك أرسل على الفور بعض الغلمان فأبعدوهم. وعند ما وصل الرسل إلى حضرة هولاكو خان وعرضوا عليه كل ما شاهدوه غضب وقال: إن الخليفة ليست لديه كافية قط، إذ أنه معنا كالقوس العوجاء فلو أمدني الله الأزلي بعونه فسوف أجعله مستقيما كالسهم. ثم دخل رسل الخليفة وهم ابن الجوزي وبدر الدين وزنكي وبلغوا الرسالة، فغضب هولاكو خان من عبارة الخليفة غير اللائقة وقال: إن إرادة الله مع هؤلاء القوم أمر آخر إذ ألقي في روعهم مثل هذه الأوهام.
وفي شهر... من سنة الستين لوتيل الموافقة لسنة 655 أذن هولاكو لرسل الخليفة في الانصراف من موضع پنج انكشت على حدود همذان التي كانت معسكرا له وأرسل يقول: إن الله الأزلي رفع جنكيز خان ومنحنا وجه الأرض كله من الشرق إلى الغرب، فكل من سار معنا وأطاعنا واستقام قلبه ولسانه تبقى له أمواله ونساؤه وأبناؤه، ومن يفكر في الخلاف والشقاق لا يستمتع بشئ من ذلك، ثم عاتب الخليفة مراسلته بشدة قائلا: لقد فتنك حب الجاه والمال والعجب والغرور بالدولة الفانية بحيث انه لم يعد يؤثر فيك الناصحين بالخير وإن في أذنيك وقرا فلا تسمع نصح المشفقين ولقد انحرفت عن طريق آبائك وأجدادك، وإذن فعليك ان تكون مستعدا للحرب والقتال فاني متوجه إلى بغداد بجيش كالنمل والجراد ولو جرى سير الفلك على شاكلة أخرى فتلك مشيئة الله العظيم.
وبعد أن وصل رسل بغداد بلغوا رسالة ذلك الملك الفاتح إلى الوزير ابن العلقمي فعرضها برمتها على الخليفة وقال: ما ذا ترى لدفع هذا الخصم القاهر القادر؟ فأجاب الوزير قائلا. ينبغي أن ندفعه ببذل الأموال لأن الخزائن والدفائن تجمع لوقاية عزة العرض وسلامة النفس، فيجب إعداد ألف حمل من نفائس الأموال، وألفا من نجائب الإبل، وألفا من الجياد العربية المجهزة بالآلات والمعدات وينبغي إرسال التحف والهدايا في صحبة الرسل الكفاة الدهاة مع تقديم الاعتذار إلى هولاكو وجعل الخطبة والسكة باسمه. فأعجب الخليفة برأي الوزير وأمر بإنجاز ذلك، ولكن مجاهد الدين أيبك المعروف بالدواتدار الصغير، بسبب الوحشة التي بينه وبين الوزير أرسل إلى الخليفة رسالة بالاتفاق مع الأمراء الآخرين وشطار بغداد يقولون: إن الوزير دبر هذه الحيلة لمصلحته الخاصة لكي يتقرب زلفى إلى هولاكو ويلقي بنا نحن الجنود في البلاء والمحنة، ولكننا سوف نرقب مفارق الطرق ونلقي القبض على الرسل ونأخذ ما معهم من أموال وندعهم في العذاب والعناء. فعدل الخليفة بسبب هذا الكلام عن إرسال الأحمال، وبدافع من التهور والغرور أرسل إلى الوزير من يقول له: لا تخش القضاء المقبل، ولا تقل خرافة فان بيني وبين هولاكو خان وأخيه منكوقاآن صداقة وألفة لا عداوة وقطيعة وحيث إنني صديق لهما فلا بد أنهما يكونان صديقين وموالين لي وإن رسالة الرسل غير صحيحة. أما إذا أضمر الإخوان لي خلافا وغدرا فلا ضير على الأسرة العباسية، إذ أن ملوك الأرض هم بمثابة الجنود لي، وهم منقادون ومطيعون لأمري ونهيي فادعوهم من كل قطر وأسير لدفعهما وأثير إيران وتوران عليهما، فقو قلبك ولا تخافن تهديد المغول ووعيدهم، فإنهم برغم كونهم أرباب دولة وأصحاب شوكة لا يملكون سوى الهوس في رؤوسهم والريح في أكفهم. فاضطرب الوزير لهذا الكلام وأيقن أن دولة العباسيين سوف تزول، وإذ كان إدبار هذه الدولة سيكون في عهده فإنه طفق يتلوى كالثعبان ويفكر في كل تدبير، وقد اجتمع عند الوزير أمراء بغداد وعظماؤها مثل سليمان شاه بن برجم وفتح الدين بن كره ومجاهد الدين الدواتدار الصغير وأطلقوا ألسنتهم بقدح الخليفة وطعنه قائلين: إنه صديق المطربين والمساخر وعدو الجيوش والجنود وإننا أمراء الجيش بعنا كل ما ادخرناه في عهد والده المستنصر. وقال سليمان شاه: إذا لم يقدم الخليفة على دفع هذا الخصم القوي ولم يبادر إلى طلب العون والمساعدة فسيتغلب جيش المغول عن قريب على بغداد، وحينئذ لا يرحم المغول أي مخلوق، كما فعلوا بسائر البلاد والعباد، فلا يبقون على أي شخص من الحضر كان أو من البدو، قويا كان أو ضعيفا، وسيخرجون ربات الخدور من ستر العصمة، ولو أن المغول لم يحدقوا بجميع الجهات لكان من السهل