وقال قدري حافظ طوقان:
يرى الفارابي في مدينة أن السعادة ممكنة على وجه الأرض... إذا تعاون المجتمع على نيلها بالأعمال الفاصلة... إن كل مدينة يمكن أن تنال بها السعادة ولكن أكمل اجتماع انساني هو الاجتماع الذي يشتمل على جميع أمم الأرض وأحسن دولة تنال بها السعادة هي الدولة الكبرى....
فالفارابي قد تنبأ إذن باجتماع الأمم كلها واتصالها بعضها ببعض واتحادها فكأنه رجل من رجال القرن العشرين يؤمن بالسلام وثيق برسالة منظمة الأمم المتحدة... فلم يقتصر على تنظيم مدينة ضيقة كإفلاطون وغيره، بل فكر باتحاد الأمم كلها.
ويقول الدكتور جميل صليبا أن الفارابي بمدينته كان أوسع أفقا وتصورا من فلاسفة اليونان.
وقال الأستاذ فؤاد عينتابي:
الاحتفالات بذكراه احتفل العالم الاسلامي والبلاد العربية في أواخر العام 1950 الميلادي بالذكرى الألفية لوفاة الفارابي، الفيلسوف الاسلامي الكبير الملقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو. ولهذه المناسبة أقامت جامعتا أنقرة وإستانبول في 29 كانون الأول 1950 احتفالات شائقة ألقيت فيها الخطب والمحاضرات وبحث فيها عن مقام الفارابي في الفلسفة والحضارة الاسلامية والعصر الذي عاش فيه من نواحيه الاجتماعية والسياسية والفكرية. وأصدرت الحكومة التركية طوابع بريد خاصة لذكرى الفارابي ذات ألوان متعددة، كتب عليها: الفارابي الفيلسوف التركي ونشرت أيضا الصحف التركية مقالات عديدة عن الفارابي: حياته وفلسفته، وبعض المجلات المصرية مقالات عنه واحتفلت دار الإذاعة السورية بذكرى الفارابي فأذاعت بعض القطع الموسيقية وفي مدينة حلب ناد موسيقى رياضي باسم نادي الفارابي، ومدرسة ابتدائية تحمل اسمه.
من هو الفارابي والفارابي علم من أعلام الاسلام ومن بناة الحضارة العربية، كان له باع طويل في الفلسفة والموسيقي والمنطق... ويعده الأتراك الآن فيلسوفا تركيا بالنسبة لأصله وموطنه.
ويقول الأستاذ أحمد أمين:
ونبغ من الأتراك أبو نصر الفارابي الفيلسوف الاسلامي الكبير وأستاذ كل فيلسوف إسلامي بعده، فإنه كان من فاراب، وهي مدينة من مدن الترك نبغ منها جماعة كبيرة من العلماء، ونبوع الفارابي من بين الأتراك مفخرة كبيرة لهم، فقد عني بفلسفة أرسطو وأخرجها للمسلمين في شكل جديد، وكان له فضل على كل من اشتغل بالفلسفة من المسلمين بعده.
ولد أبو نصر محمد بن طرخان بن أوزلغ في واسج وهي حصن صغير في مقاطعة فاراب اطرار، أو ترار ببلاد تركستان حوالي العام 257 هجري 870 م ويروى أن أباه كان قائدا عسكريا، نشأ في بلدته وحصل فيها مبادئ العلوم، ثم رحل إلى إيران فتعلم اللغة الفارسية وانتقلت به الأسفار إلى أن وصل بغداد فتعلم فيها اللغة العربية وأتقنها غاية الاتقان ويقال أنه كان يعرف عدا اللغة التركية والعربية لغات كثيرة أخرى من لغات المشرق المعروفة في زمانه ومنها اليونانية واللاتينية. ولما دخل بغداد كان بها أبو بشر متى بن يونس الحكيم المشهور، وهو شيخ كبير، كان يقرأ الناس عليه المنطق وهو يقرأ كتاب أرسطو في المنطق ويملي على تلامذته شرحه ويستعمل في تصانيفه البسط والتنزيل، وكان الفارابي يحضر حلقته في غمار تلامذته. درس في بغداد الرياضيات والطب والفلسفة، وأقام كذلك برهة ثم رحل إلى مدينة حران وفيها يوحنا بن حيلان، الحكيم النصراني المتوفى في أيام المقتدر، فاستفاد منه وأخذ عنه طرفا من المنطق أيضا. ثم قفل راجعا إلى بغداد، حيث ألف فيها معظم كتبه، وقرأ بها علوم الفلسفة وتناول جميع كتب أرسطو وتمهر في استخراج معانيها والوقوف على أغراضها وبرز في ذلك على أقرانه وأربى عليهم في التحقيق وأظهر الغوامض المنطقية وكشف سرها وقرب متناولها وجمع ما يحتاج إليه منها في كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة منبهة على ما أغفله الكندي وغيره من صناعة التحليل وأنحاء التعاليم، فجاءت كتبه المنطقية والطبيعية والإلهية الغاية الكافية والنهاية الفاصلة.
ثم انتقل إلى حلب في العام 941 م وقدم على سيف الدولة أبي الحسن علي بن أبي الهيجاء ابن حمدان، فأقام في كنفه مدة يعيش في عزلة متزييا بزي أهل التصوف، حياة هادئة متقشفة بعيدا عن ضوضاء الحياة وصخبها، ولكنه مع هذا وجد في عصر من أزهر عصور النهضة الأدبية، عصر سيف الدولة الذي ازدهرت به العلوم والآداب، وقد أكرمه سيف الدولة وقدمه، وعرف من العلم موضعه ومن الفهم منزلته. ثم رحل في صحبة سيف الدولة إلى دمشق حين استيلائه عليها، وتوجه إلى مصر سنة 338 ه 949 م وقد ذكر الفارابي في كتابه الموسوم بالسياسة المدنية أنه ابتدأ تأليفه في بغداد وأكمله بمصر، ثم عاد إلى دمشق من مصر وتوفي بها في رجب سنة 339 هجرية 950 م عند سيف الدولة علي بن حمدان في خلافة الراضي، وصلى عليه سيف الدولة في خمسة عشر رجلا من خاصته ودفن بظاهر دمشق خارج الباب الصغير.
كان الفارابي فيلسوفا كاملا وإماما فاضلا قد أتقن العلوم الحكمية وبرع في العلوم الرياضية، زكي النفس قوي الذكاء متجنبا عن الدنيا مقتنعا منها بما يقوم بأوده، يسير سيرة الفلاسفة المتقدمين، وكانت له قوة في صناعة الطب وعلم بالأمور الكلية منها، ولم يباشر أعمالها ولا حاول جزئياتها. كان في أول أمره ناطورا في بستان بدمشق، وهو على ذلك دائم الاشتغال بالحكمة والنظر فيها والتطلع إلى آراء المتقدمين وشرح معانيها، وكان ضعيف الحال حتى أنه كان في الليل يسهر للمطالعة والتصنيف ويستضئ بالقنديل الذي للحارس، وبقي كذلك مدة إلى أن عظم شانه وظهر فضله.
كان الفارابي منفردا بنفسه لا يجالس الناس، وكان أزهد الناس في الدنيا لا يحتفل بامر مكسب ولا مسكن ولا معتنيا بهيئة منزل. أجرى عليه