بيوتهم والتجأ إليهم خلق كثير من المسلمين فسلموا عندهم، وكان ببغداد جماعة من التجار الذين يسافرون إلى خراسان وغيرها قد تعلقوا من قبل على أمراء المغول وكتب لهم فرامين فلما فتحت بغداد خرجوا إلى الأمراء وعادوا ومعهم من يحرس بيوتهم، والتجأ أيضا إليهم جماعة من جيرانهم فسلموا وكذلك دار الوزير مؤيد الدين بن العلقمي فإنه سلم بها خلق كثير ودار صاحب الديوان فخر الدين ابن أحمد ابن الدامغاني ودار حاجب الباب تاج الدين علي ابن الدوامي، وما عدا هذه الأماكن فإنه لم يسلم فيه أحد إلا من كان في الآبار والقنوات وأحرق معظم البلد وجامع الخليفة وما يجاوره واستولى الخراب على البلد. وكانت القتلى في الدروب والأسواق كالتلول، ووقعت الأمطار عليهم ووطئتهم الخيول فاستحالت صورهم وصاروا عبرة لمن يرى ثم نودي بالأمان فخرج من تخلف وقد تغيرت ألوانهم وذهلت عقولهم لما شاهدوا من الأهوال التي لا يعبر عنها بلسان وهم كالموتى إذا خرجوا من القبور يوم النشور من الخوف والجوع والبرد... وقيل إن عدد القتلى ببغداد زادت عن ثمانمائة ألف نفس عدا من ألقي من الأطفال في الوحول ومن هلك في القنى والآبار وسراديب الموتى جوعا وخوفا ووقع الوباء فيمن تخلف بعد القتل من شم روائح وشرب الماء الممتزج في الجيف وكان الناس يكثرون من شم البصل لقوة الجيفة وكثرة الذباب فإنه ملأ الفضاء وكان يسقط على المطعومات فيفسدها وكان أهل الحلة والكوفة والمسيب يجلبون إلى بغداد الأطعمة فانتفع الناس بذلك وكانوا يبتاعون بأثمانها الكتب النفيسة والصفر المطعم من الأثاث بأوهى قيمة فاستغنى بهذا الوجه خلق كثير منهم. ورحل السلطان هولاكو من بغداد في جمادى الأولى عائدا إلى بلاده ومقر ملكه وفوض أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر وجعله شحنة بها وإلى الوزير مؤيد الدين بن العلقمي وصاحب الديوان فخر الدين ابن الدامغاني ونجم الدين أحمد بن عمران وهو من أهل باجسرا، كان يخدم في زمن الخليفة عاملا فاتصل الآن ببعض الأمراء وحضر بين يدي السلطان وأنهى إليه من حال العراق ما أوجب تقديمه وتشريفه وتعيينه في الأعمال الشرقية وهي الخالص وطريق خراسان والبندتيجي وأن يتفق مع الوزير وصاحب الديوان في الحكم ولقب الملك ونجم الدين عبد الغني ابن الدرنوس وشرف الدين العلوي المعروف بالطويل. وكان تاج الدين علي ابن الدوامي حاجب الباب قد خرج مع الوزير ابن العلقمي إلى حضرة السلطان فامر له أن يكون صدر الأعمال الفراتية فلم تطل مدته وتوفي في ربيع الأول فجعل ولده مجد الدين حسين عوضه أو حضر أقضى القضاة نظام الدين عبد المنعم البندنيجي بين يدي السلطان فامر بان يقر على القضاء، فلما عاد الوزير والجماعة من خدمة السلطان قرروا حال البلاد ومهدوا قواعدها وعينوا بها الصدور والنظار والنواب فعينوا سراج الدين بن البجلي في الأعمال الواسطية والبصرية ونجم الدين بن المعين صدر الأعمال الحلية والكوفية وفخر الدين المبارك ابن المخرمي صدر دجيل والمستنصري وعز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد كاتب السلة فلم تطل أيامه فرتب عوضه ابن الجمل النصراني، وعز الدين ابن الموسوي نائب الشرطة والشيخ عبد الصمد بن أبي الجيش إمام مسجد قمرية خازن الديوان. ورتبوا في جميع الأعمال نوابا وشرعوا في عمارتها فتوفي الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي في مستهل جمادى الآخرة ودفن في مشهد موسى بن جعفر ع فامر السلطان أن يكون ابنه عز الدين أبو الفضل وزيرا بعده، ووصل الأمير قرابغا بعد ذلك إلى بغداد وعين عماد الدين عمر بن محمد القزويني نائبا عنه فكان يحضر الديوان مع الجماعة وكان ذا دين ومروءة وعين على شهاب الدين علي بن عبد الله صدرا في الوقوف وتقدم إليه بعمارة جامع الخليفة وكان قد احرق كما ذكرنا ثم فتح المدارس والربط، وأثبت الفقهاء والصوفية وأدر عليهم الأخبار والمشاهرات وسلمت مفاتيح دار الخلافة إلى مجد الدين محمد بن الأثير وجعل أمر الفراشين. والبوابين إليه، وتقدم للجاثليق بسكنى دار علاء الدين الطبرس الدويدار الكبير التي على شاطئ دجلة فسكنها، ودق الناقوس على أعلاها واستولى على در الفلك التي كانت رباطا للنساء تجاه هذه الدار المذكورة وعلى الرباط البشيري المجاور لها وهدم الكتابة التي كانت على البابين وكتب عوضها بالسرياني.
ومما نقلنا من الأخبار يظهر للقارئ أن الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي لم يكن السالم من القتل وحده حتى يتهم بالخيانة ذلك الاتهام الباطل، وإنما سلم معه ونال مرتبة في الدولة المغولية فخر الدين أحمد ابن الدامغاني الحنفي الذي كان صاحب الديوان في آخر أيام المستعصم، وتاج الدين علي ابن الدوامي الذي كان حاجب باب النوبي للمستعصم بالله ونجم الدين أحمد بن عمران الباجسري أحد عمال الخليفة والغالب على أهل باجسرى الحنبلية وأقضى القضاة عبد المنعم البندنيجي الشافعي وسراج الدين ابن البجلي الشافعي وفخر الدين المبارك ابن المخرمي الحنبلي، وعز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي، والشيخ عبد الصمد بن أبي الجيش الحنبلي المقرئ المشهور وظهر أيضا أن جماعة من أعيان الشيعة الكبار والسادة منهم قتلوا فقد ذكر المؤرخ منهم بهاء الدين داود بن المختار العلوي والنقيب الطاهر شمس الدين علي بن المختار وشرف الدين محمد بن طاوس.
وقال ابن العبري في حوادث سنة 655: وفيها في شهر شوال رحل هولاكو عن حدود همذان نحو مدينة بغداد، وكان في أيام محاصرته قلاع الملاحدة قد سير رسولا إلى الخليفة المستعصم يطلب منه نجدة، فأراد أن يسير ولم يقدر ولم يمكنه الوزراء والأمراء وقالوا: إن هولاكو رجل صاحب احتيال وخديعة وليس محتاجا إلى نجدتنا وإنما غرضه إخلاء بغداد عن الرجال فيملكها بسهولة. فتقاعدوا بسبب هذا الخيال عن إرسال الرجال.
ولما فتح هولاكو تلك القلاع أرسل رسولا آخر إلى الخليفة وعاتبه على إهماله تسيير النجدة، فشاوروا الوزير فيما يجب أن يفعلوه. فقال: لا وجه غير إرضاء هذا الملك الجبار ببذل الأموال والهدايا والتحف له ولخواصه.
وعند ما أخذوا في تجهيز ما يسيرونه من الجوهر والمرصعات والثياب والذهب والفضة والمماليك والجواري والخيل والبغال والجمال قال الدويدار الصغير وأصحابه: إن الوزير إنما يدبر شان نفسه مع التتار وهو يروم تسليمنا إليهم فلا تمكنه من ذلك. فبطل الخليفة بهذا السبب تنفيذ الهدايا الكثيرة واقتصر على شئ نزر لا قدر له. فغضب هولاكو وقال: لا بد من مجيئه هو بنفسه أو يسير أحد ثلاثة نفر: إما الوزير وإما الدويدار وإما سليمان شاه. فتقدم