الخليفة إليهم بالمضي فلم يركنوا إلى قوله، فسير غيرهم مثل ابن الجوزي وابن محيي الدين فلم يجديا عنه. وأمر هولاكو بايجونوين وسونجاق أنوين ليتوجها في مقدمته على طريق إربل وتوجه هو على طريق حلوان.
وخرج الدويدار الصغير ونزل بجانب باعقوبا ولما بلغه أن بايجونوين عبر دجلة ونزل بالجانب الغربي ظن أن هولاكو قد نزل هناك، فرحل عن باعقوبا ونزل بحيال بايجو ولقي يزك المغول أميرا من أمراء الخليفة يقال له أيبك الحلبي فحملوه إلى هولاكو فأمنه إن تكلم بالصحيح وطيب قلبه فصار يسير أمام العسكر ويهديهم وكتب كتابا إلى بعض أصحابه يقول لهم:
ارحموا أرواحكم واطلبوا الأمان لأن لا طاقة لكم بهذه الجيوش الكثيفة.
فأجابوه بكتاب يقولون فيه: من يكون هولاكو؟ وما قدرته ببيت عباس؟
من الله ملكهم ولا يفلح من عاندهم ولو أراد هولاكو الصلح لما داس أرض الخليفة ولما أفسد فيها والآن إن كان يختار المصالحة فليعد إلى همذان ونحن نتوسل بالدويدار ليخضع لأمير المؤمنين متخشعا في هذا الأمر لعله يعفو عن هفوة هولاكو. فلما عرض أيبك الكتاب على هولاكو ضحك واستدل به على غباوتهم. ثم سمع الدويدار أن التتار قد توجهوا نحو الأنبار فسار إليهم ولقي عسكر سونجاق نوين وكسرهم وهزمهم وفي هزيمتهم التقاهم بايجونوين فردهم وهجموا جميعا على عسكر الدويدار فاقتتلوا قتالا شديدا وانجلت الحرب عن كسر الدويدار فقتل أكثر عسكره ونجا هو في نفر قليل من أصحابه ودخل بغداد. وفي منتصف شهر المحرم من سنة ست وخمسين وستمائة نزل هولاكو بنفسه على باب بغداد وفي يوم وليلة بنى المغول بالجانب الشرقي سيبا أعني سورا عاليا وبنى بوقا تيمور، وسونجاق نوين، وبايجونوين بالجانب الغربي كذلك وحفروا خندقا عميقا داخل السيبا ونصبوا المنجنيقات بإزاء سور بغداد من جميع الجوانب ورتبوا العرادات وآلات النفط وكان بدء القتال ثاني وعشرين محرم كذا فلما عاين الخليفة العجز في نفسه والخذلان من أصحابه أرسل صاحب ديوان فخر الدين أحمد ابن الدامغاني وعبد الغني ابن الدرنوش إلى خدمة هولاكو ومعهم تحف نزرة وقالوا: إن سيرنا الكثير يقول: قد هلعوا وخرعوا كثيرا. فقال هولاكو: لم؟ ما جاء الدويدار سليمان شاه؟ فسير الخليفة الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي وقال: أنت أحد الثلاثة وها أنا قد سيرت، إليك الوزير وهو أكبرهم. فأجاب هولاكو: إنني لما كنت مقيما بنواحي همذان طلبت أحد الثلاثة والآن لم أقنع بواحد. وجد المغول بالقتال بإزاء برج العجمي وبوقا تيمور من الجانب الغربي حيث المبقلة وسونجاق نوين وبايجو نوين من جانب البيمارستان العضدي وأمر هولاكو البثيكتجية ليكتبوا على السهام بالعربية: إن الأركاونية والعلويين والدادنشمندية وبالجملة من ليس يقاتل فهو آمن على نفسه وحريمه وأمواله. وكانوا يرمونها إلى المدينة واشتد القتال على بغداد من جميع الجوانب إلى اليوم السادس والعشرين من محرم، ثم ملك المغول الأسوار وكان الابتداء من برج العجمي واحتفظ المغول الشط ليلا ونهارا مستيقظين لئلا ينحدر فيه أحد. وأمر هولاكو أن يخرج إليه الدويدار وسليمان شاه وأما الخليفة إن اختار الخروج فليخرج وإلا فليلزم مكانه. فخرج الدويدار وسليمان شاه ومعهما جماعة من الأكابر ثم عاد الدويدار من الطريق بحجة أنه يرجع ويمنع المقاتلين الكامنين بالدروب والأزقة لئلا يقتلوا أحدا من المغول فرجع وخرج من الغد وقتل، وعامة أهل بغداد أرسلوا شرف الدين المراغي وشهاب الدين محمودا الزنكاني ليأخذ لهم الأمان. ولما رأى الخليفة أن لا بد من الخروج أراد أو لم يرد استأذن هولاكو بان يحضر بين يديه، فاذن له وخرج رابع صفر ومعه أولاده وأهله، فتقدم هولاكو أن ينزلوه بباب كلواذا، وشرع العساكر في نهب بغداد ودخل هولاكو بنفسه إلى بغداد ليشاهد دار الخليفة وتقدم باحضار الخليفة فاحضروه ومثل بين يديه وقدم جواهر نفيسة ولآلئ ودررا معبأة في أطباق ففرق هولاكو جميعها على الأمراء وعند المساء خرج إلى منزله وأمر الخليفة أن يفرز جميع النساء التي باشرهن هو وبنوه ويعزلهن عن غيرهن ففعل، فكن سبعمائة امرأة فأخرجهن ومعهن ثلاثمائة خادم خصى (4). وبقي النهب يعمل إلى سبعة أيام ثم رفعوا السيف وبطلوا السبي. وفي رابع عشر صفر رحل هولاكو من بغداد وفي أول مرحلة قتل الخليفة المستعصم وابنه الأوسط مع ستة نفر من الخصيان بالليل وقتل ابنه الأكبر ومعه جماعة من الخواص على باب كلواذا، وفوض عمارة بغداد إلى صاحب الديوان فخر الدين بن الدامغاني والوزير مؤيد الدين بن العلقمي وعبد الغني ابن الدرنوش. وأرسل بوقا تيمور إلى الحلة ليمتحن أهلها هل هم على الطاعة أم لا؟ فتوجه نحوها ورحل عنها إلى مدينة واسط وقتل بها خلقا كثيرا أسبوعا ثم عاد إلى هولاكو وهو بمقام سياه كوه... ولما ملك هولاكو بن تولي خان بغداد ورتب بها الشحاني والولاة أنفذ بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل إليه ابنه الملك الصالح إسماعيل ومعه جماعة من عسكره نجدة له فأظهر له هولاكو عبسة وقال:
أنتم بعد في شك من أمرنا ومطلتم نفوسكم يوما بعد يوم وقدمتم رجلا وأخرتم أخرى لتنظروا من الظافر بصاحبه فلو انتصر الخليفة وخذلنا لكان مجيئكم إليه لا إلينا، قل لأبيك: لقد عجبنا منك تعجبا كيف ذهب عليك الصواب وعدل بك ذهنك عن سواء السبيل واتخذت اليقين ظنا وقد لاح لك الصبح فلم تستصبح. فلما عاد الصالح إلى الموصل وبلغ أباه ما حمل من الرسالة الزاجرة أيقن بدر الدين أن المنايا قد كشرت عن أنيابها وذلت نفسه وهلع هلعا شديدا وكاد يخسف بدره ويكسف نوره فانتبه من غفلته وأخرج جميع ما في خزائنه من الأموال واللآلئ والجواهر والمحرمات من الثياب وصادر ذوي الثروة من رعاياه وأخذ حتى حلي حظاياه والدرر من حلق أولاده وسار إلى طاعة هولاكو بجبال همذان فأحسن هولاكو قبوله واحترمه لكبر سنه ورق له وجبر قلبه بالمواعيد الجميلة.
وكان هذا المؤرخ قد قال من قبل في ذكر الخليفة المستعصم بالله:
وكان إذا نبه على ما ينبغي أن يفعله في أمر التتار إما المداراة والدخول في طاعتهم وتوخي مرضاتهم أو تجييش العساكر وملتقاهم بتخوم خراسان قبل تمكنهم واستيلائهم على العراق فكان يقول: أنا بغداد تكفيني ولا يستكثرونها لي إذا نزلت لهم عن باقي البلاد ولا أيضا يهجمون علي وأنا بها وهي بيتي ودار مقامي. فهذه الخيالات الفاسدة وأمثالها عدلت به عن الصواب فأصيب بمكاره لم تخطر بباله.
وقال رشيد الدين فضل الله الهمذاني المؤرخ في تاريخه جامع التواريخ