ويرى أن حسن التخلص، والتلطف في وصل مقدمة القصيدة بالغرض منها، مما أبدعه المحدثون من الشعراء، دون من تقدمهم.
(س) وناقدنا العربي هذا يحمل للمتقدمين كل تقدير وإكبار، ويؤمن بما وهبوه من طبع دقيق، فإذا اتفق لك في أشعار العرب التي يحتج بها تشبيه لا تتلقاه بالقبول فابحث عنه، وتفر عن معناه، فإنك لا تعدم أن تجد تحته خبيئة إذا أثرتها عرفت فضل القوم بها، وعلمت أنهم أدق طبعا من أن يلفظوا بكلام لا معنى تحته.
ولكنه مع ذلك ينقدهم، كما رأيناه عند تصريحه بأننا نجد عندهم أبياتا لا يلتئم شطراها، كما سبق أن مثلنا.
ولا يتعصب ضد المحدثين من الشعراء، ويراهم قد سلكوا منهاج من تقدمهم بل يراهم قد أبدعوا وأجادوا، ويعرف لهم ذلك بخاصة في حسن التخلص وجمال القوافي. وهو صريح في تقريره ان تقدم الزمن لا يكسب الشعر مزية وفضلا. ويقدر كذلك أن المولدين اتوا في أشعارهم بعجائب، وإن كانوا قد استفادوها ممن تقدمهم، ولكنها تسلم لهم إذا ادعوها للطيف سحرهم فيها.
غير أن له في القدماء والمحدثين رأيا لا نتفق معه فيه، وربما كان متأثرا في ذلك بابن قتيبة، إذ يرى أن أشعار المحدثين متكلفة غير صادرة عن طبع صحيح كأشعار العرب التي سبيلهم في منظومها سبيلهم في منثور كلامهم الذي لا مشقة عليهم فيه.
فالحكم بان أشعار المحدثين غير صادرة عن طبع صحيح، لا مكان له من الصحة، فكثير من الشعراء المحدثين مطبوع يصدر شعره عن قريحة فياضة لا شك فيها.
والحكم بان العرب لم يكونوا يجدون مشقة في انتاج شعرهم مما لا يقره تاريخ أدبهم، فمن شعرائهم من كان يتوفر على انتاجه وقتا طويلا، حتى يخرج انتاجه مهذبا مصفى.
ويعترف ابن طباطبا بان صناعة الشعر أشق على شعراء زمانه منها وعلى من كان قبلهم، ويعلل ذلك بان القدماء قد سبقوا إلى كل معنى بديع، ولفظ فصيح، وكان من نتيجة ذلك أن المحدثين إذا أتوا بما يقصر عن معاني السابقين، لم يتلق شعرهم بالقبول.
ولعل السر في هذه المشقة ان المحدثين لم يفتحوا من أبواب الشعر غير تلك الأبواب التي كانت للسابقين، ولو أنهم طرقوا أبوابا أخرى لوجدوا مجال القول واسع الميدان.
ع ومنهجه في تربية الذوق والتدريب على الإنتاج الأدبي الجيد هو الاتصال بالنصوص الأدبية، لتأملها وتقويم اللسان بها. لا ليعيش كلا عليها، ومن أجل ذلك ألف كتابه: تهذيب الطبع. وأكثر من الشواهد في عيار الشعر، فعلى الشاعر، كما قال: أن يديم النظر في الأشعار التي قد اخترناها، لتلتصق معانيها بفهمه، وترسخ أصولها في قلبه، ويذهب في ذلك إلى ما يحكى عن خالد بن عبد الله القسري قال:
حفظني أبي ألف خطبة، ثم قال لي: تناسها، فتناسيتها، فلم أرد بعد ذلك شيئا من الكلام إلا سهل علي، فكان حفظه لتلك الخطب رياضة لفهمه، وتهذيبا لطبعه، وتلقيحا لذهنه، ومادة لفصاحته، وسببا لبلاغته، ولسنه وخطابته.
ولا يزال لهذا الرأي وجاهته في تربية الذوق، وتثقيف الشاعر، وتقويم طبعه.
وشهد العصر الذي عاش فيه ابن طباطبا بعض الكتب التي ألفت في النقد الأدبي، وورث بعضها. منها:
أ فمن ذلك كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة، ويظهر انه قرأ هذا الكتاب، وتأثر ببعض آرائه، رغبة منه في تقسيم الشعر، فإننا نجد بين التقسيمين كثيرا من التشابه:
ب ومن كتب ذلك العصر كتاب قواعد الشعر لثعلب، ولا نكاد نجد صلة تربط بين الكتابين، لا من حيث المادة، ولا من حيث الاتجاه، ولا من حيث المعالجة لما اتفقا فيه من بعض الموضوعات.
ج أما صلته بابن المعتز فيقول عنها ياقوت: ذكر أبو عبد الله حمزة بن الحسن الأصبهاني قال: سمعت جماعة من رواة الأشعار ببغداد يتحدثون عن عبد الله بن المعتز انه كان لهجا بذكر أبي الحسن: ابن طباطبا، مقدما له على سائر اهله، ويقول: ليس في ولد الحسين من يشبهه.
وكان يعرف شعر ابن طباطبا.
وكان ابن طباطبا أيضا طول أيامه مشتاقا إلى عبد الله بن المعتز متمنيا ان يلقاه، أو يرى شعره، فاما لقاؤه فلم يتفق له، لأنه لم يفارق أصبهان قط، وأما ضفره بشعره، فإنه اتفق له في آخر أيامه.
ومن الجائز أن يكون ابن طباطبا قد عرف بعض شعر عبد الله بن المعتز وعرف كتابه في البديع وربما كان لذلك أثره في اكثار ابن طباطبا من الشعر في الطبيعة، وفي تأليف كتبه، فهو أمير علوي، ليس بغريب ان يتشبه بأمير عباسي. غير أن هناك فرقا كبيرا في اتجاه كتابي الرجلين، فإذا كان اتجاه ابن طباطبا اتجاها علميا لبيان نظم الشعر، وما ينبغي ان يتحقق فيه ليكون جيدا، ودراسة أسباب تأثير الشعر في النفس، فان كتاب البديع لابن المعتز يحدد صاحبه هدفه بقوله: قد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن واللغة وأحاديث رسول الله ص وكلام الصحابة والاعراب وغيرهم وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سماه المحدثون البديع، ليعلم أن بشارا ومسلما وأبا نواس، ومن تقبلهم وسلك سبيلهم، لم يسبقوا إلى هذا الفن، ولكنه كثر في أشعارهم، فعرف في زمانهم، حتى سمى بهذا الاسم....
د وتحدث المبرد في كتابه: الكامل عن التشبيه، قبل ابن طباطبا ولكن لم يبد أثر واضح لهذا الفصل في كتاب عيار الشعر.
ه ونجد أيضا كتاب نقد الشعر، لقدامة بن جعفر، وقد تعرض الناقدان لأمور اشتركا في الحديث عنها:
فمن ذلك حديثهما عن العروض، وأن وزن الشعر يعود إلى طبع في