وحكي عن عيسى بن أبان رحمه الله أنه كان يقول: صيغة مطلق الامر فيما له نهاية معلومة تحتمل التكرار وإن كان لا يوجه إلا بالدليل، وفيما ليست له نهاية معلومة لا تحتمل التكرار لان فيما لا نهاية له يعلم يقينا أن المخاطب لم يرد الكل فإن ذلك ليس في وسع المخاطب ولا طريق له إلى معرفته، وهذا نحو قوله: صم وصل، فليس لهذا الجنس من الفعل نهاية معلومة وإنما يعجز العبد عن إقامته بموته، فعرفنا يقينا أن المراد بهذا الخطاب الفرد منه خاصة، وأما فيما له نهاية معلومة كالطلاق والعدة فالكل من محتملات الخطاب، وذلك تارة يكون بتكرار التطليق، وتارة يكون بالجمع بين التطليقات في اللفظ فيكون صيغة الكلام محتملا له كله. وخرج على هذا الأصل قول الرجل لامرأته: أنت طالق للسنة أو للعدة فإنه يحتمل نية الثلاث في الايقاع جملة واحدة، ونية التكرار في أن ينوي وقوع كل تطليقة في طهر على حدة. وفيما قررناه من الكلام دليل على ضعف ما ذهب إليه إذا تأملت. والكلام في مقتضى صيغة الفرد دون ما إذا قرن به ما يدل على التغيير من قوله للسنة أو للعدة.
واستدل الجصاص رحمه الله على بطلان قول من يقول إن مطلق صيغة الامر تقتضي التكرار فقال: بالامتثال مرة واحدة يستجيز كل أحد أن يقول إنه أتى بالمأمور به، وخرج عن موجب الامر وكان مصيبا في ذلك، فلو كان موجبه التكرار لكان آتيا ببعض المأمور به، ولا معنى لقول من يقول: فإذا أتى به ثانيا وثالثا يقال أيضا في العادة أتى بالمأمور به، لان قائل هذا لا يكون مصيبا في ذلك في الحقيقة، فإن المخاطب في المرة الثانية متطوع من عنده بمثل ما كان مأمورا به لا أن يكون آتيا بالمأمور به، بمنزلة المصلي أربع ركعات في الوقت بعد صلاة الظهر يكون متطوعا بمثل ما كان مأمورا به إلا أن الذي يسميه آتيا بالمأمور به إنما يسميه بذلك توسعا ومجازا، فلهذا لا نسميه كاذبا، والله أعلم.