باعتدال حاله ظاهرا كما بينا. وصار الحاصل أن العاقل نوعان: من يصيب بعض العقل على وجه يتمكن من التمييز به بين ما يضره وما ينفعه ولكنه ناقص في نفسه كالصبي قبل البلوغ والمعتوه الذي يعقل، وعاقل هو كامل العقل وهو البالغ الذي لا آفة به، فإن بالآفة يستدل تارة على انعدام العقل بعد البلوغ كالمجنون، وتارة على نقصان العقل كما في حق المعتوه، فإذا انعدمت الآفة كان اعتدال الظاهر بالبلوغ دليلا على كمال العقل الذي هو الباطن، والمطلق من كل شئ يتناول الكامل منه، فاشتراط العقل لصحة خبره على وجه يكون حجة دليل على أنه يشترط كمال العقل في ذلك.
فأما الضبط: فهو عبارة عن الاخذ بالجزم، وتمامه في الاخبار أن يسمع حق السماع، ثم يفهم المعنى الذي أريد به، ثم يحفظ ذلك (بجهده، ثم يثبت على ذلك) بمحافظة حدوده ومراعاة حقوقه بتكراره إلى أن يؤدي إلى غيره، لان بدون السماع لا يتصور الفهم، وبعد السماع إذا لم يفهم معنى الكلام لم يكن ذلك سماعا مطلقا بل يكون ذلك سماع صوت لا سماع كلام هو خبر، وبعد فهم المعنى يتم التحمل وذلك يلزمه الأداء كما تحمل، ولا يتأتى ذلك إلا بحفظه والثبات على ذلك إلى أن يؤدي.
ثم الأداء إنما يكون مقبولا منه باعتبار معنى الصدق فيه وذلك لا يتأتى إلا بهذا، ولهذا لم يجوز أبو حنيفة رضي الله عنه أداء الشهادة لمن عرف خطه في الصك ولا يتذكر الحادثة لأنه غير ضابط لما تحمل وبدون الضبط لا يجوز له أداء الشهادة.
ثم الضبط نوعان: ظاهر، وباطن. فالظاهر منه بمعرفة صيغة المسموع والوقوف على معناه لغة، والباطن منه بالوقوف على معنى الصيغة فيما يبتنى عليه أحكام الشرع وهو الفقه، وذلك لا يتأتى إلا بالتجربة والتأمل بعد معرفة معاني اللغة وأصول أحكام الشرع، ولهذا لم تقبل رواية من اشتدت غفلته إما خلقة أو مسامحة ومجازفة، لان الضبط ظاهرا لا يتم منه عادة، وما يكون شرطا يراعي وجوده بصفة الكمال، ولهذا لم يثبت السلف المعارضة بين رواية من لم يعرف بالفقه ورواية من عرف بالفقه لانعدام الضبط باطنا ممن لم يعرف بالفقه، على ما يروى عن عمرو بن دينار أن جابر بن زيد أبا الشعثاء، روى له عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (ص)