القيامة قال بعده: * (ذلك اليوم الحق) * ذلك إشارة إلى تقدم ذكره، وفي وصف اليوم بأنه حق وجوه أحدها: أنه يحصل فيه كل الحق، ويندمغ كل باطل، فلما كان كاملا في هذا المعنى قيل: إنه حق، كما يقال: فلان خير كله إذا وصف بأن فيه خيرا كثيرا، وقوله: * (ذلك اليوم الحق) * يفيد أنه هو اليوم الحق وما عداه باطل، لأن أيام الدنيا باطلها أكثر من حقها وثانيها: أن الحق هو الثابت الكائن، وبهذا المعنى يقال إن الله حق، أي هو ثابت لا يجوز عليه الفناء ويوم القيامة كذلك فيكون حقا وثالثها: أن ذلك اليوم هو اليوم الذي يستحق أن يقال له يوم، لأن فيه تبلى السرائر وتنكشف الضمائر، وأما أيام الدنيا فأحوال الخلف فيها مكتومة، والأحوال فيها غير معلومة.
قوله تعالى: * (فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا) * أي مرجعا، والمعتزلة احتجوا به على الاختيار والمشيئة، وأصحابنا رووا عن ابن عباس أنه قال: المراد فمن شاء الله به خيرا هداه حتى يتخذ إلى ربه مآبا.
* (إنآ أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتنى كنت ترابا) *.
ثم إنه تعالى زاد في تخويف الكفار فقال: * (إنا أنذرناكم عذابا قريبا) * يعني العذاب في الآخرة، وكل ما هو آت قريب، و (هو) كقوله تعالى: * (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) * (النازعات: 46) وإنما سماه إنذارا، لأنه تعالى بهذا الوصف قد خوف منه نهاية التخويف وهو معنى الإنذار.
ثم قال تعالى: * (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ما في قوله: * (ما قدمت يداه) * فيه وجهان الأول: أنها استفهامية منصوبة بقدمت، أي ينظر أي شيء قدمت يداه الثاني: أن تكون بمعنى الذي وتكون منصوبة ينتظر، والتقدير: ينظر إلى الذي قدمت يداه، إلا أن على هذا التقدير حصل فيه حذفان أحدهما: أنه لم يقل: قدمته، بل قال: * (قدمت) * فحذف الضمير الراجع الثاني: أنه لم يقل: ينظر إلى ما قدمت، بل قال: ينظر ما قدمت، يقام نظرته بمعنى نظرت إليه.
المسألة الثانية: في الآية ثلاثة أقوال: الأول: وهو الأظهر أن المرء عام في كل أحد، لأن المكلف إن كان قدم عمل المتقين، فليس له إلا الثواب العظيم، وإن كان قدم عمل الكافرين، فليس له إلا العقاب الذي وصفه الله تعالى، فلا رجاء لمن ورد القيامة من المكلفين في أمر سوى هذين، فهذا هو المراد بقوله: * (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه) * فطوبى له إن قدم عمل الأبرار، وويل له إن قدم عمل الفجار والقول الثاني: وهو قول عطاء: أن المر ههنا هو الكافر، لأن المؤمن كما ينظر إلى ما قدمت يداه، فكذلك ينظر إلى عفو الله ورحمته