وجوه. أحدها: أن أكثر المفسرين على أنه ذهب يونس مغاضبا لربه ويقال، هذا قول ابن مسعود وابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير ووهب واختيار ابن قتيبة ومحمد بن جرير فإذا كان كذلك فيلزم أن مغاضبته لله تعالى من أعظم الذنوب، ثم على تقدير أن هذه المغاضبة لم تكن مع الله تعالى بل كانت مع ذلك الملك أو مع القوم فهو أيضا كان محظورا لأن الله تعالى قال: * (فاصبر لحكم ربك * ولا تكن كصاحب الحوت) * (القلم: 48) وذلك يقتضي أن ذلك الفعل من يونس كان محظورا. وثانيها: قوله تعالى: * (فظن أن لن نقدر عليه) * وذلك يقتضي كونه شاكا في قدرة الله تعالى. وثالثها: قوله: * (إني كنت من الظالمين) * والظلم من أسماء الذم لقوله تعالى: * (ألا لعنة الله على الظالمين) * (هود: 18). ورابعها: أنه لو لم يصدر منه الذنب، فلم عاقبه الله بأن ألقاه في بطن الحوت. وخامسها: قوله تعالى في آية أخرى: * (فالتقمه الحوت وهو مليم) * (الصافات: 142) والمليم هو ذو الملامة، ومن كان كذلك فهو مذنب. وسادسها: قوله: * (ولا تكن كصاحب الحوت) * فإن لم يكن صاحب الحوت مذنبا لم يجز النهي عن التشبه به وإن كان مذنبا فقد حصل الغرض. وسابعها: أنه قال: * (ولا تكن كصاحب الحوت) * وقال: * (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) * (الأحقاف: 35) فلزم أن لا يكون يونس من أولي العزم وكان موسى من أولي العزم، ثم قال: في حقه لو كان ابن عمران حيا ما وسعه إلا اتباعي، وقال في يونس: " لا تفضلوني على يونس بن متى " وهذا خارج عن تفسير الآية. والجواب عن الأول أنه ليس في الآية من غاضبه، لكنا نقطع على أنه لا يجوز على نبي الله أن يغاضب ربه؛ لأن ذلك صفة من يجهل كون الله مالكا للأمر والنهي والجاهل بالله لا يكون مؤمنا فضلا عن أن يكون نبيا، وأما ما روي أنه خرج مغاضبا لأمر يرجع إلى الاستعداد، وتناول النفل فمما يرتفع حال الأنبياء عليهم السلام عنه، لأن الله تعالى إذا أمرهم بشيء فلا يجوز أن يخالفوه لقوله تعالى: * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) * (الأحزاب: 36) وقوله: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) * إلى قوله: * (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت) * (النساء: 65) فإذا كان في الاستعداد مخالفة لم يجز أن يقع ذلك منهم، وإذا ثبت أنه لا يجوز صرف هذه المغاضبة إلى الله تعالى، وجب أن يكون المراد أنه خرج مغاضبا لغير الله، والغالب أنه إنما يغاضب من يعصيه فيما يأمره به فيحتمل قومه أو الملك أو هما جميعا، ومعنى مغاضبته لقومه أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العذاب عليهم عندها، وقرأ أبو شرف مغضبا.
أما قوله مغاضبة القوم أيضا كانت محظورة لقوله تعالى: * (ولا تكن كصاحب الحوت) * (القلم: 48) قلنا لا نسلم أنها كانت محظورة، فإن الله تعالى أمره بتبليغ تلك الرسالة إليهم، وما أمره بأن يبقى معهم أبدا مظاهر الأمر لا يقتضي التكرار، فلم يكن خروجه من بينهم معصية، وأما الغضب فلا نسلم أنه معصية وذلك لأنه لما لم يكن منهيا عنه قبل ذلك فظن أن ذلك جائز، من حيث إنه لم يفعله إلا غضبا لله تعالى وأنفة لدينه وبغضا للكفر وأهله، بل كان الأولى له أن يصابر وينتظر الإذن من الله