وإن قلنا محل الكلام هو الحنجرة واللهاة واللسان، ومحل العلوم والإرادات هو القلب، ومحل القدرة هو الأعصاب والأوتار والعضلات، كنا قد وزعنا هذه الأمور على هذه الأعضاء المختلفة لكنا أبطلنا ذلك. وبينا أن المدرك لجميع المدركات والمحرك لجميع الأعضاء بكل أنواع التحريكات يجب أن يكون شيئا واحدا، فلم يبق إلا أن يقال في الإدراك والقدرة على التحريك (أنه) شيء سوى هذا البدن وسوى أجزاء هذا البدن وأن هذه الأعضاء جارية مجرى الآلات والأدوات فكما أن الإنسان يعقل أفعالا مختلفة بواسطة آلات مختلفة فكذلك النفس تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتتفكر بالدماغ وتعقل بالقلب، فهذه الأعضاء آلات النفس وأدوات لها، والنفس جوهر مغاير لها مفارق عنها بالذات متعلق بها تعلق التصرف والتدبير وهذا البرهان برهان شريف يقيني في ثبوت هذا المطلوب والله أعلم.
المقدمة الثالثة: لو كان الإنسان عبارة عن هذا الجسد لكان إما أن يقوم بكل واحد من الأجزاء حياة وعلم وقدرة على حدة، وإما أن يقوم بمجموع الأجزاء حياة وعلم وقدرة، والقسمان باطلان فبطل القول بكون الإنسان عبارة عن هذا الجسد، وأما بطلان القسم الأول فلأنه يقتضي كون كل واحد من أجزاء الجسد حيا عالما قادرا على سبيل الاستقلال فوجب أن لا يكون الإنسان الواحد حيوانا واحدا بل أحياء عالمين قادرين وحينئذ لا يبقى فرق بين الإنسان الواحد وبين أشخاص كثيرين من الناس وربط بعضهم بالبعض بالتسلسل لكنا نعلم بالضرورة فساد هذا الكلام لأني أجد ذاتي ذاتا واحدة لا حيوانات كثيرين، وأيضا فبتقدير أن يكون كل واحد من أجزاء هذا الجسد حيوانا واحدا على حدة فحينئذ لا يكون لكل واحد منهما خبر عن حال صاحبه فلا يمتنع أن يريد هذا أن يتحرك إلى هذا الجانب ويريد الجزء الآن أن يتحرك إلى الجانب الآخر فحينئذ يقع التدافع بين أجزاء بدن الإنسان الواحد كما يقع بين شخصين. وفساد ذلك معلوم بالبديهة، وأما بطلان القسم الثاني فلأنه يقتضي قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة، وذلك معلوم البطلان بالضرورة ولأنه لو جاز حلول الصفة الواحدة في المحال الكثيرة لم يبعد أيضا حصول الجسم الواحد في الأحياز الكثيرة ولأن بتقدير أن تحصل الصفة الواحدة في المحال المتعددة فحينئذ يكون كل واحد من تلك الأجزاء حيا عاقلا عالما فيتجرد الأمر إلى كون هذه الجثة الواحدة أناسا كثيرين، ولما ظهر فساد القسمين ثبت أن الإنسان ليس هو هذه الجثة. فإن قالوا: لم لا يجوز أن تقوم الحياة الواحدة بالجزء الواحد، ثم إن تلك الحياة تقتضي صيرورة جملة الأجزاء أحياء قلنا هذا باطل لأنه لا معنى للحياة إلا الحيية، ولا معنى للعلم إلا العالمية، وبتقدير أن نساعد على أن الحياة معنى يوجب الحيية والعلم معنى يوجب العالمية إلا أنا نقول إن حصل في مجموع جثة مجموع حياة واحدة وعالمية واحدة فقد حصلت الصفة الواحدة في المحال الكثيرة وهو محال، وإن حصل في كل جزء وجثة حياة على حدة