وبالإجماع، وأما أن الاستغفار للكافر لا يجوز فلوجهين. الأول: قوله تعالى: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) * (التوبة: 113). الثاني: قوله في سورة الممتحنة: * (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم) * - إلى قوله - * (لأستغفرن لك) * وأمر الناس إلا في هذا الفعل فوجب أن يكون ذلك معصية منه، " والجواب ": لا نزاع إلا في قولكم الاستغفار للكافر لا يجوز فإن الكلام عليه من وجوه: أحدها: أن القطع على أن الله تعالى يعذب الكافر لا يعرف إلا بالسمع، فلعل إبراهيم عليه السلام لم يجد في شرعه ما يدل على القطع بعذاب الكافر فلا جرم استغفر لأبيه. وثانيها: أن الاستغفار قد يكون بمعنى الاستماحة، كما في قوله: * (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) * (الجاثية: 14) والمعنى سأسأل ربي أن لا يجزيك بكفرك ما كنت حيا بعذاب الدنيا المعجل. وثالثها: أنه عليه السلام إنما استغفر لأبيه لأنه كان يرجو منه الإيمان فلما أيس من ذلك ترك الاستغفار ولعل في شرعه جواز الاستغفار للكافر الذي يرجي منه الإيمان، والدليل على وقوع هذا الاحتمال قوله تعالى: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) * (التوبة: 113) فبين أن المنع من الاستغفار إنما يحصل بعد أن يعرفوا أنهم من أصحاب الجحيم. ثم قال بعد ذلك: * (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) * (التوبة: 114) فدلت الآية على أنه وعده بالاستغفار لو آمن، فلما لم يؤمن لم يستغفر له بل تبرأ منه، فإن قيل فإذا كان الأمر كذلك فلم منعنا من التأسي به في قوله: * (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم) * - إلى قوله - * (إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) * (الممتحنة:) قلنا الآية تدل على أنه لا يجوز لنا التأسي به في ذلك لكن المنع من التأسي به في ذلك لا يدل على أن ذلك كان معصية. فإن كثيرا من الأشياء هي من خواص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز لنا التأسي به مع أنها كانت مباحة له عليه السلام. ورابعها: لعل هذا الاستغفار كان من باب ترك الأولى وحسنات الأبرار سيئات المقربين، أما قوله: * (إنه كان بي حفيا) * أي لطيفا رفيقا يقال أحفى فلان في المسألة بفلان إذا لطف به وبالغ في الرفق، ومنه قوله تعالى: * (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا) * (محمد: 37) أي وإن لطفت المسألة والمراد أنه سبحانه للطفه بي وإنعامه على عودني الإجابة فإذا أنا استغفرت لك حصل المراد فكأنه جعله بذلك على يقين إن هو تاب أن يحصل له الغفران. " الجواب الثاني " من الجوابين قوله: * (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) * الاعتزال للشيء هو التباعد عنه والمراد أني أفارقكم في المكان وأفارقكم في طريقتكم أيضا وأبعد عنكم وأتشاغل بعبادة ربي الذي ينفع ويضر والذي خلقني وأنعم علي فإنكم بعبادة الأصنام سالكون طريقة الهلاك، فواجب على مجانبتكم ومعنى قوله: * (عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا) * أرجو أن لا أكون كذلك، وإنما ذكر ذلك على سبيل التواضع كقوله: * (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) * (الشعراء: 82) وأما قوله: * (شقيا) * مع ما فيه من التواضع لله ففيه تعريض بشقاوتهم في دعاء آلهتهم على ما قرره أولا في
(٢٢٩)