وأصله منبوذ فصرف إلى فعيل ومنه قيل للقيط منبوذ لأنه يرمى به ومنه النهي عن المنابذة في البيع وهو أن يقول: إذا نبذت إليك هذا الثوب أو الحصاة فقد وجب البيع إذ عرفت هذا فنقول قوله تعالى: * (إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) * معناه تباعدت وانفردت على سرعة إلى مكان يلي ناحية الشرق ثم بين تعالى أنها مع ذلك اتخذت من دون أهلها حجابا مستورا وظاهر ذلك أنها لم تقتصر على أن انفردت إلى موضع بل جعلت بينها وبينهم حائلا من حائط أو غيره ويحتمل أنها جعلت بين نفسها وبينهم سترا وهذا الوجه الثاني أظهر من الأول ثم لا بد من احتجابها من أن يكون لغرض صحيح وليس مذكورا واختلف المفسرون فيه على وجوه. الأول: أنها لما رأت الحيض تباعدت عن مكانها المعتاد للعبادة لكي تنتظر الطهر فتغتسل وتعود فلما طهرت جاءها جبريل عليه السلام. والثاني: أنها طلبت الخلوة لئلا تشتغل عن العبادة. والثالث: قعدت في مشرقة للاغتسال من الحيض محتجبة بشيء يسترها. والرابع: أنها كان لها في منزل زوج أختها زكرياء محراب على حدة تسكنه وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها فتمنت (على) الله (أن) تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها فانفرج السقف لها فخرجت إلى المفازة فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك. وخامسها: عطشت فخرجت إلى المفازة لتستقي واعلم أن كل هذه الوجوه محتمل وليس في اللفظ ما يدل على ترجيح واحد منها.
المسألة الثالثة: المكان الشرقي هو الذي يلي شرقي بيت المقدس أو شرقي دارها وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقوله تعالى: * (مكانا شرقيا) * فاتخذوا ميلاد عيسى قبلة.
المسألة الرابعة: أنها لما جلست في ذلك المكان أرسل الله إليها الروح واختلف المفسرون في هذا الروح فقال الأكثرون: إنه جبريل عليه السلام وقال أبو مسلم إنه الروح الذي تصور في بطنها بشرا والأول أقرب لأن جبريل عليه السلام يسمى روحا قال الله تعالى: * (نزل به الروح الأمين * على قلبك) * (الشعراء: 193 - 194) وسمي روحا لأنه روحاني وقيل خلق من الروح وقيل لأن الدين يحيا به أو سماه الله تعالى بروحه على المجاز محبة له وتقريبا كما تقول لحبيبك روحي وقرأ أبو حياة روحنا بالفتح لأنه سبب لما فيه روح العباد وإصابة الروح عند الله الذي هو عدة المتقين في قوله: * (فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم) * (الواقعة: 88، 89) أو لأنه من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربنا وذا روحنا وإذا ثبت أنه يسمى روحا فهو هنا يجب أن يكون المراد به هو لأنه قال: * (إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا) * (مريم: 19) ولا يليق ذلك إلا بجبريل عليه السلام واختلفوا في أنه كيف ظهر لها. فالأول: أنه ظهر لها على صورة شاب أمرد حسن الوجه سوي الخلق. والثاني: أنه ظهر لها على صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس وكل ذلك محتمل ولا دلالة في اللفظ على التعيين ثم قال: وإنما تمثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه فلو ظهر لها