* (إني أخاف) * وذلك يدل على شدة تعلق قلبه بمصالحه وإنما فعل ذلك لوجوه: أحدها: قضاء لحق الأبوة على ما قال تعالى: * (وبالوالدين إحسانا) * (الإسراء: 23) والإرشاد إلى الدين من أعظم أنواع الإحسان، فإذا انضاف إليه رعاية الأدب والرفق كان ذلك نورا على نور. وثانيها: أن الهادي إلى الحق لا بد وأن يكون رفيقا لطيفا يورد الكلام لا على سبيل العنف لأن إيراده على سبيل العنف يصير كالسبب في إعراض المستمع فيكون ذلك في الحقيقة سعيا في الإغواء. وثالثها: ما روى أبو هريرة أنه قال عليه السلام: " أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام أنك خليلي فحسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي وأن أسكنه حظيرة قدسي وأدنيه من جواري " والله أعلم.
قوله تعالى * (قال أراغب أنت عن آلهتى يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرنى مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بى حفيا * وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربى عسى ألا أكون بدعآء ربى شقيا) * اعلم أن إبراهيم عليه السلام لما دعا أباه إلى التوحيد، وذكر الدلالة على فساد عبادة الأوثان، وأردف تلك الدلالة بالوعظ البليغ، وأورد كل ذلك مقرونا باللطف والرفق، قابله أبوه بجواب يضاد ذلك، فقابل حجته بالتقليد، فإنه لم يذكر في مقابلة حجته إلا قوله: * (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) * فأصر على ادعاء إلهيتها جهلا وتقليدا وقابل وعظه بالسفاهة حيث هدده بالضرب والشتم، وقابل رفقه في قوله: * (يا أبت) * (مريم: 44) بالعنف حيث لم يقل له يا بني بل قال: * (يا إبراهيم) * وإنما حكى الله تعالى ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم ليخفف على قلبه ما كان يصل إليه من أذى المشركين فيعلم أن الجهال منذ كانوا على هذه السيرة المذمومة، أما قوله: * (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) * فإن كان ذلك على وجه الاستفهام فهو خذلان لأنه قد عرف منه ما تكرر منه من وعظه وتنبيهه على الدلالة وهو يفيد أنه راغب عن ذلك أشد رغبة فما فائدة هذا القول. وإن كان ذلك على سبيل التعجب فأي تعجب في الإعراض عن حجة لا فائدة فيها، وإنما التعجب كله من الإقدام على عبادتها فإن الدليل الذي ذكره إبراهيم عليه السلام كما أنه يبطل جواز عبادتها فهو يفيد التعجب من أن العاقل كيف يرضى بعبادتها فكأن أباه قابل ذلك التعجب الظاهر المبني على الدليل بتعجب