أمر وصيغة الأمر للوجوب فوجب كون هذا التهجد واجبا فلو حملنا قوله نافلة لك على عدم الوجوب لزم التعارض وهو خلاف الأصل فوجب أن يكون معنى كونها نافلة له ما ذكرناه من كون وجوبها زائدا على وجوب الصلوات الخمس والله أعلم.
البحث الخامس: قوله: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر) * وإن كان ظاهر الأمر فيه مختصا بالرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنه في المعنى عام في حق الأمة والدليل عليه أنه قال ومن الليل فتهجد به نافلة لك فبين أن الأمر بالتهجد مخصوص بالرسول وهذا يدل على أن الأمر بالصلاة الخمس غير مخصوص بالرسول عليه السلام وإلا لم يكن لتقييد الأمر بالتهجد بهذا القيد فائدة أصلا والله أعلم. ثم قال تعالى: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * اتفق المفسرون على أن كلمة عسى من الله واجب قال أهل المعاني لأن لفظة عسى تفيد الأطماع ومن أطمع إنسانا في شيء ثم حرمه كان عارا والله تعالى أكرم من أن يطمع أحدا في شيء ثم لا يعطيه ذلك. وقوله: * (مقاما محمودا) * فيه بحثان:
البحث الأول: في انتصاب قوله محمودا وجهان. الأول: أن يكون انتصابه على الحال من قوله يبعثك أي يبعثك محمودا. والثاني: أن يكون نعتا للمقام وهو ظاهر. البحث الثاني: في تفسير المقام المحمود أقوال. الأول: أنه الشفاعة قال الواحدي أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية " هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي " وأقول اللفظ مشعر به وذلك لأن الإنسان إنما يصير محمودا إذا حمده حامد والحمد إنما يكون على الانعام فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقاما أنعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه على قوم فحمدوه على ذلك الإنعام وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليم الشرع لأن ذلك كان حاصلا في الحال وقوله: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * تطميع وتطميع الإنسان في الشيء الذي وعده في الحال محال فوجب أن يكون ذلك الانعام الذي لأجله يصير محمودا إنعاما سيصل منه حصل له بعد ذلك إلى الناس وما ذاك إلا شفاعته عند الله فدل هذا على أن لفظ الآية وهو قوله: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * يدل على هذا المعنى وأيضا التنكير في قوله مقاما محمودا يدل على أنه يحصل للنبي عليه السلام في ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل ومن المعلم أن حمد الإنسان على سعيه في التخليص عن العقاب أعظم من حمده في السعي في زيادة من الثواب لا حاجة به إليها لأن احتياج الإنسان إلى دفع الآلام العظيمة عن النفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة به إلى تحصيلها وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * هو الشفاعة في إسقاط العقاب على ما هو مذهب أهل السنة ولما ثبت أن لفظ الآية مشعر بهذا المعنى إشعارا قويا ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى وجب حل اللفظ عليه ومما يؤكد هذا الوجه الدعاء المشهور وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه به الأولون والآخرون