الأجسام والأعراض؟ فأجاب الله عنه بأنه موجود مغاير لهذه الأجسام ولهذه الأعراض وذلك لأن هذه الأجسام أشياء تحدث من امتزاج الأخلاط والعناصر، وأما الروح فإنه ليس كذلك بل هو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث قوله: * (كن فيكون) * (آل عمران: 47) فقالوا لم كان شيئا مغايرا لهذه الأجسام ولهذه الأعراض فأجاب الله عنه بأنه موجود يحدث بأمر الله وتكوينه وتأثيره في إفادة الحياة لهذا الجسد ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه فإن أكثر حقائق الأشياء وماهياتها مجهولة. فأنا نعلم أن السكنجبين له خاصية تقتضي قطع الصفراء فأما إذا أردنا أن نعرف ماهية تلك الخاصية وحقيقتها المخصوصة فذاك غير معلوم فثبت أن أكثر الماهيات والحقائق مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها فكذلك ها هنا وهذا هو المراد من قوله: * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * (الإسراء: 85). وأما المبحث الثاني: فهو أن لفظ الأمر قد جاء بمعنى الفعل قال تعالى: * (وما أمر فرعون برشيد) * (هود: 97) وقال: * (فلما جاء أمرنا) * (هود: 66) أي فعلنا فقوله: * (قل الروح من أمر ربي) * أي من فعل ربي وهذا الجواب يدل على أنهم سألوه أن الروح قديمة أو حادثة فقال بل هي حادثة وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه وإيجاده ثم احتج على حدوث الروح بقوله: * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * يعني أن الأرواح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم يحصل فيها العلوم والمعارف فهي لا تزال تكون في التغيير من حال إلى حال وفي التبديل من نقصان إلى كمال والتغيير والتبديل من أمارات الحدوث فقوله: * (قل الروح من أمر ربي) * يدل على أنهم سألوه أن الروح هل هي حادثة فأجاب بأنها حادثة واقعة بتخليق الله وتكوينه وهو المراد من قوله: * (قل الروح من أمر ربي) * ثم استدل على حدوث الأرواح بتغيرها من حال إلى حال وهو المراد من قوله: * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * فهذا ما نقوله في هذا الباب والله أعلم.
المسألة الثانية: في ذكر سائر الأقوال المقولة في نفس الروح المذكورة في هذه الآية. اعلم أن الناس ذكروا أقوالا أخرى سوى ما تقدم ذكره، فالقول الأول: أن المراد من هذا الروح هو القرآن قالوا وذلك لأن الله تعالى سمى القرآن في كثير من الآيات روحا واللائق بالروح المسؤول عنه في هذا الموضع ليس إلا القرآن فلا بد من تقرير مقامين. المقام الأول: تسمية الله القرآن بالروح يدل عليه قوله تعالى: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) * (الشورى: 52) وقوله: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره) * (النحل: 2) وأيضا السبب في تسمية القرآن بالروح أن بالقرآن تحصل حياة الأرواح والعقول لأن به تحصل معرفة الله تعالى ومعرفة ملائكته ومعرفة كتبه ورسله والأرواح إنما تحيا بهذه المعارف وتمام تقرير هذا الموضع ذكرناه في تفسير قوله: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره) * (النحل: 2)، وأما بيان المقام الثاني وهو أن الروح اللائق بهذا الموضع هو القرآن لأنه تقدمه قوله: * (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) * (الإسراء: 82) والذي تأخر عنه قوله: * (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) * (الإسراء: 86) إلى قوله: * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على