الإهلاك قال تعالى: * (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم) * (الأنعام: 44) وقال في فرعون: * (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون * فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم) * (القصص: 39، 40) فظهر بهذه الآيات أن الإيصال إلى المرادات لا يدل على كمال الدرجات والفوز بالخيرات بقي علينا أن نذكر الفرق بين الكرامات وبين الاستدراجات. فنقول: إن صاحب الكرامة لا يستأنس بتلك الكرامة بل عند ظهور الكرامة يصير خوفه من الله تعالى أشد وحذره من قهر الله أقوى فإنه يخاف أن يكون ذلك من باب الاستدراج، وأما صاحب الاستدراج فإنه يستأنس بذلك الذي يظهر عليه ويظن أنه إنما وجد تلك الكرامة لأنه كان مستحقا لها وحينئذ يستحقر غيره ويتكبر عليه ويحصل له أمن من مكر الله وعقابه ولا يخاف سوء العاقبة فإذا ظهر شيء من هذه الأحوال على صاحب الكرامة دل ذلك على أنها كانت استدراجا لا كرامة. فلهذا المعنى قال المحققون: أكثر ما اتفق من الانقطاع عن حضرة الله إنما وقع في مقام الكرامات فلا جرم ترى المحققين يخافون من الكرامات كما يخافون من أنواع البلاء. والذي يدل على أن الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه:
الحجة الأولى: أن هذا الغرور إنما يحصل إذا اعتقد الرجل أنه مستحق لهذه الكرامة لأن بتقدير أن لا يكون مستحقا لها امتنع حصول الفرح بها بل يجب أن يكون فرحه بكرم المولى وفضله أكبر من فرحه بنفسه فثبت أن الفرح بالكرامة أكثر من فرحه بنفسه وثبت أن الفرح بالكرامة لا يحصل إلا إذا اعتقد أنه أهل ومستحق لها وهذا عين الجهل لأن الملائكة قالوا: * (لا علم لنا إلا ما علمتنا) * (البقرة: 32) وقال تعالى: * (وما قدروا الله حق قدره) * (الأنعام: 91) وأيضا قد ثبت بالبرهان اليقيني أنه لا حق لأحد من الخلق على الحق فكيف يحصل ظن الاستحقاق.
الحجة الثانية: أن الكرامات أشياء مغايرة للحق سبحانه فالفرح بالكرامة فرح بغير الحق والفرح بغير الحق حجاب عن الحق والمحجوب عن الحق كيف يليق به الفرح والسرور.
الحجة الثالثة: أن من اعتقد في نفسه أنه صار مستحقا للكرامة بسبب عمله حصل لعمله وقع عظيم في قلبه ومن كان لعمله وقع عنده كان جاهلا ولو عرف ربه لعلم أن كل طاعات الخلق في جنب جلال الله تقصير وكل شكرهم في جنب آلائه ونعمائه قصور وكل معارفهم وعلومهم فهي في مقابلة عزته حيرة وجهل. رأيت في بعض الكتب أنه قرأ المقرئ في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق قوله تعالى: * (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) * (فاطر: 10) فقال علامة أن الحق رفع عملك أن لا يبقى (ذكره) عندك فإن بقي عملك في نظرك فهو مدفوع وإن لم يبق معك فهو مرفوع مقبول.
الحجة الرابعة: أن صاحب الكرامة إنما وجد الكرامة لإظهار الذل والتواضع في حضرة الله فإذا ترفع وتجبر وتكبر بسبب تلك الكرامات فقد بطل ما به وصل إلى الكرامات فهذا طريق ثبوته يؤديه إلى عدمه فكان مردودا ولهذا المعنى لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مناقب نفسه