وعالمية على حدة عاد ما ذكرنا من كون الإنسان الواحد أناسا كثيرين وهو محال.
المقدمة الرابعة: أنا لما تأملنا في أحوال النفس رأينا أحوالها بالضد من أحوال الجسم، وذلك يدل على أن النفس ليست جسما، وتقرير هذه المنافاة من وجوه. الأول: أن كل جسم حصلت فيه صورة فإنه لا يقبل صورة أخرى من جنس الصورة الأولى إلا بعد زوال الصورة الأولى زوالا تاما مثاله: أن الشمع إذا حصل فيه شكل التثليث امتنع أن يحصل فيه شكل التربيع والتدوير إلا بعد زوال الشكل الأول عنه، نعم إنا وجدنا الحال في تصور النفس بصور المعقولات بالضد من ذلك فإن النفس التي لم تقبل صورة عقلية البتة يبعد قبولها شيئا من الصور العقلية فإذا قبلت صورة واحدة صار قبولها للصورة الثانية أسهل، ثم إن النفس لا تزال تقبل صورة بعد صورة من غير أن تضعف البتة بل كلما كان قبولها للصور أكثر صار قبولها للصور الآتية بعد ذلك أسهل وأسرع، ولهذا السبب يزداد الإنسان فهما وإدراكا كلما ازداد تخرجا وارتباطا في العلوم فثبت أن قبول النفس للصور العقلية على خلاف قبول الجسم للصورة وذلك يوهم أن النفس ليست بجسم. والثاني: أن المواظبة على الأفكار الدقيقة لها أثر في النفس وأثر في البدن، أما أثرها في النفس فهو تأثيرها في إخراج النفس من القوة إلى الفعل في التعقلات والإدراكات وكلما كانت الأفكار أكثر كان حصول هذه الأحوال أكمل وذلك غاية كمالها ونهاية شرفها وجلالتها، وأما أثرها في البدن فهو أنها توجب استيلاء اليبس على البدن واستيلاء الذبول عليه، وهذه الحالة لو استمرت لانتقلت إلى الماليخوليا وسوق الموت فثبت بما ذكرنا أن هذه الأفكار توجب حياة النفس وشرفها وتوجب نقصان البدن وموته فلو كانت النفس هي البدن لصار الشيء الواحد سببا لكماله ونقصانه معا ولحياته وموته معا، وأنه محال. والثالث: أنا إذا شاهدنا أنه ربما كان بدن الإنسان ضعيفا نحيفا، فإذا لاح له نور من الأنوار القدسية وتجلى له سر من أسرار عالم الغيب حصل لذلك الإنسان جراءة عظيمة وسلطنة قوية. ولم يعبأ بحضور أكابر السلاطين ولم يقم لهم وزنا ولولا أن النفس شيء سوى البدن لما كان الأمر كذلك. الرابع: أن أصحاب الرياضات والمجاهدات كلما أمعنوا في قهر القوى البدنية وتجويع الجسد قويت قواهم الروحانية وأشرقت أسرارهم بالمعارف الإلهية وكلما أمعن الإنسان في الأكل والشرب وقضاء الشهوة الجسدانية صار كالبهيمة وبقي محروما عن آثار النطق والعقل والمعرفة ولولا أن النفس غير البدن لما كان الأمر كذلك. الخامس: أنا نرى أن النفس تفعل أفاعيلها بآلات بدنية فإنها تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتأخذ باليد وتمشي بالرجل، أما إذا آل الأمر إلى العقل والإدراك فإنها مستقلة بذاتها في هذا الفعل من غير إعانة شيء من الآلات ولذلك فإن الإنسان لا يمكنه أن يبصر شيئا إذا أغمض عينيه وأن لا يسمع صوتا إذا سد أذنيه. كما لا يمكنه البتة أن يزيل عن قلبه العلم بما كان عالما به فعلمنا أن النفس غنية بذاتها