(أرأيتك) أغنى عن تكراره (والوجه الثالث) أن يكون هذا مفعول أرأيت لان الكاف جاءت لمجرد الخطاب لا محل لها، كأنه قال على وجه التعجب والانكار أبصرت أو علمت هذا الذي كرمت على، بمعنى لو أبصرته أو علمته لكان يجب أن لا تكرمه على، هذا هو حقيقة هذه الكلمة.
ثم قال تعالى حكاية (عنه) (لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا) وفيه مباحث:
(البحث الأول) قرأ ابن كثير (لئن أخرتني إلي يوم القيامة) باثبات الياء في الوصل والوقف، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالحذف ونافع وأبو عمرو باثباته في الوصل دون الوقف.
(البحث الثاني) في الاحتناك قولان (أحدهما) أنه عبارة عن الاخذ بالكلية، يقال:
احتنك فلان ما عند فلان من مال إذا استقصاه وأخذه بالكلية، واحتنك الجراد الزرع إذا أكله بالكلية (والثاني) أنه من قول العرب حنك الدابة يحنكها، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به، وقال أبو مسلم: الاحتناك افتعال من الحنك كأنهم يملكهم كما يملك الفارس فرس بلجامه، فعلى القول الأول معنى الآية لأستأصلنهم بالاغواء. وعلى القول الثاني لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحبلها.
(البحث الثالث) قوله (إلا قليلا) هم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) فان قيل كيف ظن إبليس هذا الظن الصادق بذرية آدم؟ قلنا فيه وجوه (الأول) أنه سمع الملائكة يقولون (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) فعرف هذه الأحوال (الثاني) أنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزما (1) فقال الظاهر أن أولاده يكونون مثله في ضعف العزم (الثالث) أنه عرف أنه مركب من قوة بهيمية شهوانية، وقوة سبعية غضبية، وقوة وهمية شيطانية، وقوة عقلية ملكية، وعرف أن القوى الثلاث أعنى الشهوانية والغضبية والوهمية تكون هي المستولية في أول الخلقة، ثم إن القوة العقلية إنما تكمل في آخر الامر، ومتى كان الامر كذلك كان ما ذكره إبليس لازما، واعلم أنه تعالى لما حكى عن إبليس ذلك حكى عن نفسه أنه تعالى قال له اذهب، وهذا ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجئ وإنما معناه امض لشأنك الذي اخترته، والمقصود التخلية وتفويض الامر إليه.
ثم قال (فمن تبعك منهم فان جهنم جزاؤكم جزاء موفورا) ونظيره قول موسى عليه الصلاة * (هامش) * (1) هذا الوجه يتعارض مع نص الآية الكريمة وهي قول الله تعالى لملائكة المقربين (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة) سورة الحجر. فالآية تنص على أن الامر بالسجود والسجود كان قيل الوسوسة ولو أن الوسوسة كانت قبل السجود، لترتب عليه أن يكون الملائكة كلهم أجمعون قد سجدوا لآدم بعد المعصية وهو أمر لا يليق ولا يتصور فانتفى هذا الوجه.