يمكن أن يكون قوله: * (قيما) * بدلا من قوله: * (ولم يجعل له عوجا) * لأن معنى: * (لم يجعل له عوجا) * أنه جعله مستقيما فكأنه قيل: * (أنزل على عبده الكتاب) * وجعله: * (قيما) *. الوجه الرابع: أن يكون حالا من الضمير في قوله: * (ولم يجعل له عوجا) * أي حال كونه قائما بمصالح العباد وأحكام الدين، واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه: * (أنزل على عبده الكتاب) * الموصوف بهذه الصفات المذكورة أردفه ببيان ما لأجله أنزله فقال: * (لينذر بأسا شديدا من لدنه) * وأنذر متعد إلى مفعولين كقوله: * (إنا أنذرناكم عذابا قريبا) * (النبأ: 40) إلا أنه اقتصر ههنا على أحدهما وأصله * (لينذر) * - الذين كفروا - * (بأسا شديدا) * كما قال في ضده: * (ويبشر المؤمنين) * والبأس مأخوذ من قوله تعالى: * (بعذاب بئيس) * وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل بأسا وبآسة وقوله: * (من لدنه) * أي صادرا من عنده قال الزجاج وفي: * (لدن) * لغات يقال لدن ولدي ولد والمعنى واحد، قال وهي لا تتمكن تمكن عند لأنك تقول هذا القول صواب عندي ولا تقول صواب لدني وتقول عندي مال عظيم والمال غائب عنك ولدني لما يليك لا غير وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بسكون الدال مع إشمام الضم وكسر النون والهاء وهي لغة بني كلاب ثم قال تعالى: * (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا) * واعلم أن المقصود من إرسال الرسل إنذار المذنبين وبشارة المطيعين، ولما كان دفع الضرر أهم عند (ذوي) لعقول من إيصال النفع لا جرم قدم الإنذار على التبشير في اللفظ، قال صاحب " الكشاف " وقرئ ويبشر بالتخفيف والتثقيل وقوله: * (ماكثين فيه أبدا) * يعني خالدين وهو حال للمؤمنين من قوله: * (أن لهم أجرا) *، قال القاضي: الآية دالة على صحة قولنا في مسائل، أحدها: أن القرآن مخلوق وبيانه من وجوه. الأول: أنه تعالى وصفه بالإنزال والنزول وذلك من صفات المحدثات فإن القديم لا يجوز عليه التغير. الثاني: وصفه بكونه كتابا والكتب هو الجمع وهو سمي كتابا لكونه مجموعا من الحروف والكلمات وما صح فيه التركيب والتأليف فهو محدث. الثالث: أنه تعالى أثبت الحمد لنفسه على إنزال الكتاب والحمد إنما يستحق على النعمة والنعمة محدثة مخلوقة. الرابع: أنه وصف الكتاب بأنه غير معوج وبأنه مستقيم والقديم لا يمكن وصفه بذلك فثبت أنه محدث مخلوق. وثانيها: مسألة خلق الأعمال فإن هذه الآيات تدل على قولنا في هذه المسألة من وجوه. الأول: نفس الأمر بالحمد لأنه لو لم يكن للعبد فعل لم ينتفع بالكتاب إذ الانتفاع به إنما يحصل إذا قدر على أن يفعل ما دل الكتاب على أنه يجب فعله ويترك ما دل الكتاب على أنه يجب تركه وهو إنما يفعل ذلك لو كان مستقلا بنفسه، أما إذا لم يكن مستقلا بنفسه لم يكن لعوج الكتاب أثر في اعوجاج فعله ولم يكن لكون الكتاب قيما أثر في استقامة فعله، أما إذا كان العبد قادرا على الفعل مختارا فيه بقي لعوج الكتاب واستقامته أثر في فعله. والثاني: أنه تعالى لو كان أنزل بعض الكتاب ليكون سببا لكفر البعض وأنزل الباقي ليؤمن البعض الآخر فمن أين أن الكتاب قيم لا عوج فيه؟ لأنه لو كان فيه عوج لما زاد على ذلك. والثالث: قوله: * (لينذر) * وفيه دلالة على أنه تعالى أراد منه صلى الله عليه وسلم
(٧٦)