وكيف والمحكى عنه أنه ما كان يثبت إلها سوى نمروذ فكيف يسلم وجود الإله الرحمن وإذا لم يسلم وجوده، فكيف يمكنه تسليم أن الشيطان كان عاصيا للرحمن، ثم إن على تسليم ذلك فكيف يسلم الخصم بمجرد هذا الكلام أن مذهبه مقتبس من الشيطان، بل لعله يقلب ذلك على خصمه، قلنا: الحجة المعول عليها في إبطال مذهب آزر هو الذي ذكره أولا من قوله: * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) * فأما هذا الكلام فيجري مجرى التخويف والتحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدلالة، وعلى هذا التقدير يسقط السؤال. النوع الرابع: قوله: * (يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا) * قال الفراء: معنى أخاف أعلم. والأكثرون على أنه محمول على ظاهره، والقول الأول إنما يصح لو كان إبراهيم عليه السلام عالما بأن أباه سيموت على ذلك الكفر وذلك لم يثبت فوجب إجراؤه على ظاهره فإنه كان يجوز أن يؤمن فيصير من أهل الثواب ويجوز أن يصر فيموت على الكفر، فيكون من أهل العقاب، ومن كان كذلك كان خائفا لا قاطعا، واعلم أن من يظن وصول الضرر إلى غيره فإنه لا يسمى خائفا إلا إذا كان بحيث يلزم من وصول ذلك الضرر إليه تألم قلبه كما يقال أنا خائف على ولدي أما قوله: * (فتكون للشيطان وليا) * فذكروا في الولي وجوها: أحدها: أنه إذا استوجب عذاب الله كان مع الشيطان في النار والولاية سبب للمعية وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز وإن لم يجز حمله إلى الولاية الحقيقية لقوله تعالى: * (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) * (الزخرف: 67) وقال: * (ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) * (العنكبوت: 25) وحكى عن الشيطان أنه يقول لهم: * (إني كفرت بما أشركتمون من قبل) * (إبراهيم: 22) واعلم أن هذا الإشكال إنما يتوجه إذا كان المراد من العذاب عذاب الآخرة، أما إذا كان المراد منه عذاب الدنيا فالإشكال ساقط. وثانيها؛ أن يحمل العذاب على الخذلان أي إني أخاف أن يمسك خذلان الله فتصير مواليا للشيطان ويبرأ الله منك على ما قال تعالى: * (ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا) * (النساء: 119). وثالثها: وليا أي تاليا للشيطان، تليه كما يسمى المطر الذي يأتي تاليا وليا فإن قيل قوله: * (أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا) * يقتضي أن تكون ولاية الشيطان أسوأ حالا من العذاب نفسه وأعظم، فما السبب لذلك. " والجواب ": أن رضوان الله تعالى أعظم من الثواب على ما قال: * (ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم) * (التوبة: 72) فوجب أن تكون ولاية الشيطان التي هي في مقابلة رضوان الله أكبر من العذاب نفسه وأعظم. واعلم أن إبراهيم عليه السلام رتب هذا الكلام في غاية الحسن لأنه نبه أولا على ما يدل على المنع من عبادة الأوثان ثم أمره باتباعه في النظر والاستدلال وترك التقليد ثم نبه على أن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي ثم إنه عليه السلام أورد هذا الكلام الحسن مقرونا باللطف والرفق فإن قوله في مقدمة كل كلام * (يا أبت) * دليل على شدة الحب والرغبة في صونه عن العقاب وإرشاده إلى الصواب، وختم الكلام بقوله
(٢٢٦)