موجود في قولنا أنا الله أصلح، وإن كانت العبرة بحرف الميم، فكما أنه موجود في العلم فهو أيضا موجود في الملك والامتحان، فكان حمل قولنا: * (المص) * على ذلك المعنى بعينه محض التحكم، وأيضا فإن جاء تفسير الألفاظ بناء على ما فيها من الحروف من غير أن تكون تلك اللفظة موضوعة في اللغة لذلك المعنى، انفتحت طريقة الباطنية في تفسير سائر ألفاظ القرآن بما يشاكل هذا الطريق. وأما قول بعضهم: إنه من أسماء الله تعالى فأبعد، لأنه ليس جعله إسما لله تعالى، أولى من جعله اسما لبعض رسله من الملائكة، أو الأنبياء، لأن الاسم إنما يصير اسما للمسمى بواسطة الوضع والاصطلاح، وذلك مفقود ههنا، بل الحق أن قوله: * (المص) * اسم لقب لهذه السورة، وأسماء الألقاب لا تفيد فائدة في المسميات، بل هي قائمة مقام الإشارات، ولله تعالى أن يسمي هذه السورة بقوله: * (المص) * كما أن الواحد منا إذا حدث له ولد فإنه يسميه بمحمد.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (المص) * مبتدأ، وقوله: * (كتاب) * خبره، وقوله: * (أنزل إليك) * صفة لذلك الخبر. أي السورة المسماة بقولنا: * (المص كتاب أنزل إليك) *.
فإن قيل: الدليل الذي دل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم هو أن الله تعالى خصه بإنزال هذا القرآن عليه، فما لم نعرف هذا المعنى لا يمكننا أن نعرف نبوته، وما لم نعرف نبوته، لا يمكننا أن نحتج بقوله. فلو أثبتنا كون هذه السورة نازلة عليه من عند الله بقوله: لزم الدور.
قلنا: نحن بمحض العقل نعلم أن هذه السورة كتاب أنزل إليه من عند الله. والدليل عليه أنه عليه الصلاة والسلام ما تلمذ لأستاذ، ولا تعلم من معلم، ولا طالع كتابا ولم يخالط العلماء والشعراء وأهل الأخبار، وانقضى من عمره أربعون سنة، ولم يتفق له شيء من هذه الأحوال، ثم بعد انقضاء الأربعين ظهر عليه هذا الكتاب العزيز المشتمل على علوم الأولين والآخرين، وصريح العقل يشهد بأن هذا لا يكون إلا بطريق الوحي من عند الله تعالى. فثبت بهذا الدليل العقلي أن * (المص) * كتاب أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه وإلهه.
المسألة الثانية: احتج القائلون بخلق القرآن بقوله: * (كتاب أنزل إليك) * قالوا إنه تعالى وصفه بكونه منزلا، والإنزال يقتضي الانتقال من حال إلى حال، وذلك لا يليق بالقديم، فدل على أنه محدث.
وجوابه: أن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز هو هذه الحروف ولا نزاع في كونها محدثة مخلوقة. والله أعلم.
فإن قيل: فهب أن المراد منه الحروف، إلا أن الحروف أعراض غير باقية بدليل أنها متوالية،