خلقنا أباكم آدم وصورناكم، أي صورنا آدم * (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) * (الأعراف: 11) وهو قول الحسن ويوسف النحوي وهو المختار، وذلك لأن أمر الملائكة بالسجود لآدم تأخر عن خلق آدم وتصويره، ولم يتأخر عن خلقنا وتصويرنا أقصى ما في الباب أن يقال: كيف يحسن جعل خلقنا وتصويرنا كناية عن خلق آدم وتصويره؟ فنقول: إن آدم عليه السلام أصل البشر، فوجب أن تحسن هذه الكناية نظيرة قوله تعالى: * (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) * (البقرة: 63) أي ميثاق أسلافكم من بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام، ويقال: قتلت بنو أسد فلانا، وإنما قتله أحدهم. قال عليه السلام: ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل، وإنما قتله أحدهم، وقال تعالى مخاطبا لليهود في زمان محمد صلى الله عليه وسلم: * (وإذا أنجيناكم من آل فرعون) * (الأعراف: 141) * (وإذ قتلتم نفسا) * (البقرة: 72) والمراد من جميع هذه الخطابات أسلافهم، فكذا ههنا. الثاني: أن يكون المراد من قوله: * (خلقناكم) * آدم * (ثم صورناكم) * (الأعراف: 11) أي صورنا ذرية آدم عليه السلام في ظهره، ثم بعد ذلك قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، وهذا قول مجاهد. فذكر أنه تعالى خلق آدم أولا، ثم أخرج أولاده من ظهره في صورة الذر، ثم بعد ذلك أمر الملائكة بالسجود لآدم.
الوجه الثالث: خلقناكم ثم صورناكم ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، فهذا العطف يفيد ترتيب خبر على خبر، ولا يفيد ترتيب المخبر على المخبر.
والوجه الرابع: أن الخلق في اللغة عبارة عن التقدير، كما قررناه في هذا الكتاب، وتقدير الله عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته لتخصيص كل شيء بمقداره المعين فقوله: * (خلقناكم) * إشارة إلى حكم الله وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم. وقوله: * (صورناكم) * إشارة إلى أنه تعالى أثبت في اللوح المحفوظ صورة كل شيء كائن محدث إلى قيام الساعة على ما جاء في الخبز أنه تعالى قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فخلق الله عبارة عن حكمه ومشيئته، والتصوير عبارة عن إثبات صور الأشياء في اللوح المحفوظ، ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم وأمر الملائكة بالسجود له وهذا التأويل عندي أقرب من سائر الوجوه.
المسألة الثالثة: ذكرنا في سورة البقرة أن هذه السجدة فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد منها مجرد التعظيم لا نفس السجدة. وثانيها: أن المراد هو السجدة، إلا أن المسجود له هو الله تعالى، فآدم كان كالقبلة. وثالثها: أن المسجود له هو آدم، وأيضا ذكرنا أن الناس اختلفوا في أن الملائكة الذين أمرهم الله تعالى بالسجود لآدم هل هم ملائكة السماوات والعرش أو المراد ملائكة الأرض، ففيه خلاف، وهذه المباحث قد سبق ذكرها في سورة البقرة.