لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، ولا شك أن القوم لما شاهدوا المعجزات الباهرة التي أظهرها الله تعالى لموسى على فرعون، ثم شاهدوا أنه تعالى أهلك فرعون وجنوده، وخص بني إسرائيل بأنواع السلامة والكرامة ثم إنهم بعد هذه المواقف والمقامات يذكرون هذا الكلام الفاسد الباطل كانوا في نهاية الجهل وغاية الخلاف.
أما قوله تعالى: * (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) * يقال: جاوز الوادي. إذا قطعه وخلفه وراءه وجاوز بغيره، عبر به وقرئ * (جوزنا) * بمعنى: أجزنا. يقال: أجاز المكان وجوزه بمعنى: جازه * (فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم) * قال الزجاج: يواظبون عليها ويلازمونها. يقال: لكل من لزم شيئا وواظب عليه، عكف يعكف ويعكف، ومن هذا قيل لملازم المسجد معتكف. وقال قتادة: كان أولئك القوم من لخم، وكانوا نزولا بالريف. قال ابن جريج: كانت تلك الأصنام تماثيل بقر وذلك أول بيان قصة العجل.
ثم حكى تعالى عنهم أنهم * (قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * واعلم أن من المستحيل أن يقول العاقل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وخالقا ومدبرا، لأن الذي يحصل بجعل موسى وتقديره: لا يمكن أن يكون خالقا للعالم ومدبرا له، ومن شك في ذلك لم يكن كامل العقل والأقرب أنهم طلبوا من موسى عليه السلام أن يعين لهم أصناما وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى، وهذا القول هو الذي حكاه الله تعالى عن عبدة الأوثان حيث قالوا: * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * (الزمر: 3).
إذا عرفت هذا فلقائل أن يقول: لم كان هذا القول كفرا؟ فنقول: أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم، أو اعتقدوا فيه أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى لأن العبادة نهاية التعظيم، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الأنعام والأكرام.
فإن قيل: فهذا القول صدر من كل بني إسرائيل أو من بعضهم؟
قلنا: بل من بعضهم، لأنه كان مع موسى عليه السلام السبعون المختارون وكان فيهم من يرتفع عن مثل هذا السؤال الباطل.
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه أجابهم فقال: * (إنكم قوم تجهلون) * وتقرير هذا الجهل ما ذكر أن العبادة غاية التعظيم، فلا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام، وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل، وخلق الأشياء المنتفع بها، والقادر على هذه الأشياء ليس إلا الله تعالى، فوجب أن لا تليق العبادة إلا به.