الاتصال بعالم القدس، طفيفة الالتفات إلى عالم الحس، ومتخيلة خالصة الطاعة لنفسه القدسية جدا في الاحتراق إلى عالم العقل والانخراط في سلك الأنوار العقلية، قوية التلقي من سماء عالم الغيب، قليلة الانغماس في ظلمات أرض الجسد ومضلات القلب من سبيل الظاهر، بحيث لا تشغلها المحسوسات الظاهرة عن أفعالها الخاصة الملكوتية، وتخيلاتها الصادقة الحقيقية، فليس (1) بمستغرب أن يتيسر لذلك المتقدس - وهو في صريح اليقظة الحقة، لا في شبه نوم، ولا في شبه سنة - أن يتصل بعالم النور، ويصير إلى عالم الغيب، فيتلقى روعه من روح القدس ويطالع شيئا من الملكوت، ويتمثل لقوته المتخيلة العقول المفارقة العلوية، والنفوس العاقلة السماوية أشباحا مصورة منطبعة في حسه المشترك على سبيل الانحدار إليه من سبيل الباطن من عالم الملكوت، فيراها متمثلة حاضرة، ويسمع منها كلاما مرتبا منظوما من دون التأدية من مسلك الجليدية وسبيل الصماخ؛ وإذ للعقل الفعال زيادة اختصاص واعتناء بالرشح على ما في عالم العناصر، فأكثر ما يتفق ذلك له من تلقائه، فيتمثل له ويخاطبه ويسمعه كلاما مسموعا منظوما يحفظ ويتلى، ويكون هو من قبل الله تعالى وملائكته المقربين لا من شخص إنساني، ولا من حيوان أرضي.
فهذا حقيقة الوحي على ما قد أدت إليه الأصول العقلية، والقوانين الحكمية.
والله عنده علم الكتاب وكنه الحكمة، وسر الغيب وملكوت الحقيقة.
ثم إن للوحي مراتب مختلفة، وضروبا متنوعة بحسب اختلاف أحوال النفس ومقاماتها، وأحاينيها وأوقاتها.
فمن المتكرر الثابت في الحديث أنه (صلى الله عليه وآله) كثيرا ما كان يرى جبرئيل (عليه السلام)، وهو متشبح له في صورة دحية الكلبي. (2) وفيه: أن الحارث بن هشام - رضي الله عنه - سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله): كيف يأتيك