(بلى ولكن ليطمئن قلبي)، وبين حكاية التوراة لقول إبراهيم أيضا ففيها وقال:
أنا الرب الذي أخرج من أور الكلدانيين ليعطيك هذه الأرض لترثها، فقال:
أيها السيد الرب بماذا أعلم أني أرثها (تك 15، 7 و 8) أفترى هذا الكلام يعطي رائحة من الإيمان والتصديق بوعد الله في أمر جرت عليه سنة الله في عباده وبلاده من توريثه أرض قوم لآخرين، أم يعطي أنه لا يحصل العلم بمجرد قول الله ووعده وإنما يحصل العلم بشئ آخر، كما قيل: بماذا أعلم أني أرثها.
هب أن المتكلف لا يفهم القرآن ولا اللغة العربية، أو أنه يتحامل لتعصبه على القرآن بالافتراء توهما لرواج ذلك عند بعض الأوباش، ولكنه ألم يكن يدري بأن في توراته مثل هذا الذي يفضحه عند المقايسة، ولعمر الأدب لو أراد أن يدل على ما في توراته من الخلل لما أحسن التنبيه بمثل هذا التعريض.
وأظرف شئ مع ذلك أنه يقول: إن كتاب الله يعلمنا بأن إبراهيم لم يشك في قدرة الله مطلقا، إذن فالتوراة التي ذكرت هذا الكلام كتاب من؟ وهل ترى المتكلف يقول: إن قول إبراهيم (بماذا أعلم) ليس شكا في قدرة الله وإنما هو شك في صدقه جل شأنه في وعده، نعم يقول ولا يبالي، ولا تقل إن المتكلف لا يعلم بهذا الكلام من توراته، فإنه نقل منها هذا المقام برمته، ولكنه ستر بذيل أمانته قولها (بماذا أعلم أني أرثها).
وحاصل هذا المقام هو أن الله تبارك اسمه قال لإبراهيم أعطيك هذه الأرض لترثها فقال إبراهيم: بماذا أعلم أني أرثها؟ فقال له: خذ لي عجلا ثلاثية وعنزا ثلاثية وكبشا ثلاثيا ويمامة وحمامة فأخذها وشقها من الوسط وجعل شق كل واحد مقابل صاحبه، وأما الطير فلم يشقه، ثم غابت الشمس فصارت العتمة وإذا تنور دخان ومصباح نار يجوز بين تلك القطع، في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض (تك 15، 1 - 19)، فانظر وقل إذا كان وعد الله لا يوجب العلم بصدقه حتى يقول إبراهيم: (بماذا أعلم أني أرثها)، فما وجه الدلالة في قطع الحيوانات وظهور الدخان والنار بين قطعها، فإن كان إبراهيم يخاف خلف الوعد والندم والحزن والتأسف في القلب على صدور الوعد، فإن هذا العمل لا يوجب له العلم بعدم الندامة ولا فائدة فيه.