وما بالنا نطيل اللوم للمؤرخين القدامى، وفي عصرنا هذا مؤرخون كذلك لم يحدثونا كثيرا ولا قليلا عن هذه الصلة بين الفارابي الكادح المشرد من خراسان إلى بغداد فحلب فدمشق، وبين الفارابي صاحب المدينة الفاضلة والمعلم الثاني للفكر الإنساني بعد أرسطو؟...
والواقع أن الصلة بين نشاة الفارابي وطبيعة حياته الكادحة، وما وعاه في بغداد من مظاهر التفسخ الاجتماعي والسياسي، ومن المظالم النازلة بجمهرة الناس، وما رآه بعد من أحداث الفتن، ومن هجوم الديلم على بغداد، ثم ما أحدثوا في أهل بغداد من شغب وتقتيل وتفظيع، ثم ما لقيه هو في تشرده عنها من أهوال، وما استوعبه من بدوات الانحلال الاجتماعي في تلك المرحلة الزمنية نقول: الواقع أن الصلة بين هذا كله وبين الآراء والأفكار والتعاليم التي تشتمل عليها المدينة الفاضلة، لهي صلة قوية ظاهرة، بحيث لا يستطيع المؤرخ الواعي لحركة التاريخ إلا أن يتعمقها درسا وتوضيحا.
ذلك أن الفارابي يرينا في هذه المدينة الفاضلة ناسا اجتماعيين يؤثرون خير الجماعة على خير ذواتهم الفردية وهم متعاونون جميعا في شكل هرمي منظم يتصل رأسه بقاعدته اتصالا محكما بوسائط مترابطة متفاعلة، يسودهم حب العدل على أساس من الخير والمعرفة، وعلى أساس من القصد إلى العدل والخير والمعرفة...
والفارابي يرى أن رئيس هذه المدينة الفاضلة لا يستحق رئاسة الهرم الاجتماعي إلا أن يكون تام أعضاء الجسد، حسن الفهم والتصور، جيد الحفظ لما يفهم، ذكيا حاد الذكاء، فصيحا لطيف الأداء، محبا للتعليم والاستفادة لا يؤذيه تعب التعليم، ولا يؤذيه الكد الذي يناله منه، غير طامع نهم شره، محبا للصدق وأهله، مبغضا للكذب وأهله، كبير النفس، محبا للكرامة، تكبر نفسه عن كل ما يشين من الأمور، محبا بطبعه للعدل وأهله، مبغضا للظلم وأهله، قوي العزيمة، غير ضعيف النفس.
ويحس الفارابي أن انسانا فردا تجتمع له هذه الخصال جميعا، قد يكون نادر الوجود في المجتمع، فليكن معه رئيس آخر، أو فليكن للمدينة الفاضلة عدة رؤساء تتجمع فيهم تلك الخصال، حتى تكون المدينة فاضلة حقا برئاستهم مجتمعين مؤتلفين يكمل بعضهم بعضا، فلا سيطرة ولا استبداد ولا طغيان لفرد على مجموع.
ويحدثنا الفارابي عن ألوان مختلفة من المدن المختلفة عن مدينته الفاضلة، فإذا هذه الألوان المغايرة لها كما يصفها ليست من بدع الخيال، والفلسفة المجردة، أو الافتراض العلمي، وإنما هي من المجتمع نفسه الذي عايشه الفارابي، واستوعب أحداثه، واتصل بحياة الكادحين من أهله، وعرف الكثير الكثير من مساوئه ونقائصه ومظالمه.
وأكره ما يكره الفارابي من المدن المضادة لمدينته، أن تكون تلك المدن الجاهلة الضالة قائمة على القهر والقوة والغلبة، لا على العدل والفضيلة والخير والمعرفة والتعاون الصادق، وما أقرب الشبه بين هذه المدن الجاهلة الضالة كما يصفها وبين المجتمعات التي تسودها الأنظمة الفاشستية التي عرفنا منها في عصرنا أشكالا كثيرة.
ويرى الفارابي أن المجتمعات الانسانية الكاملة كما يتصورها ثلاثة: مجتمع يشمل سكان الأرض جميعا ويسميه الجماعة العظمى، ومجتمع يشمل أمة في جزء من المعمورة ويسميه الجماعة الوسطى، ومجتمع يختص أهل مدينة في جزء من مسكن أمة ويسميه الجماعة الصغرى... فإذا ضاق المجتمع عن ذلك كان، في نظره، مجتمعا غير كامل، بعيدا عن الخير الأفضل.
إننا نستنتج من هذه الصور أن المدينة الفاضلة ليست سوى انعكاس عن أشواق عصره ومجتمعه إلى العدل المفقود فيهما، وإن أضدادها ليست سوى انعكاس عن واقع مجتمعه وعصره هذين، وعن الواقع الذي عاش في صميم تجاربه بين غمار الكادحين.
هذا جانب الواقعية الحية في المدينة الفاضلة. وهناك الجانب الفكري الذي نلحظ في ثناياه بذور تفكير مادي عند الفارابي. وذلك حين نراه يقول بان الأجسام الطبيعية أي المادية هي الكائنة وحدها في عالمنا هذا، أما النفس فليست في رأيه منفصلة عن مادة هذه الأجسام، وإنما هي قوى تتدرج من القوة السفلى إلى القوة العليا، وإنما العليا صورة للسفلى وليست منقطعة عنها ذات وجود مستقل، وأرقى هذه القوى جميعا، الفكر. فالنفس عنده تكميل وجود الجسم، والعقل يكمل النفس، والإنسان هو العقل.
ولقد كان من ترابط جوانب الحياة، في مذهبه، أنه يرى علاقة وحدة بين جميع العلوم والمعارف الانسانية. ونظرية المعرفة عنده قائمة على ما يستفاد من تجارب الحواس وتصوراتها.
نقل عنه ابن طفيل أنه ذكر في شرحه لكتاب أرسطو في الأخلاق، قوله بان أرقى ما يصل إليه الانسان هو في هذه الدنيا، وإن الخير الاسمي هو أيضا في هذه الدنيا.
وبعد، فان فضل الفارابي على الفكر الإنساني عدا أعماله الابداعية أنه ضبط كتب المعلم الأول: أرسطو، وصنفها، وأنه هو وتلاميذه ترجموها إلى اللغة العربية وشرحوها، وإن كل من جاء بعده سار على طريقته، وأنه أضاف إلى أرسطو الكثير من آرائه وأفكاره.
وتراث الفارابي من تراث الفكر العربي في الصميم، فهو قد كتب بلغة العرب وطبع بطابع التفكير العربي، وانعكست فيه حياة المجتمع العربي، وبرزت ملامح الشخصية العربية... ثم هو من تراث الفكر الإنساني في الصميم كذلك، لأنه نقل إلى الأجيال الانسانية أعظم ما أنتجه عقل المعلم الأول وأغناه وطوره بابداعاته الخاصة.
أ فليس من حق الفارابي، إذن، بل من حق الفكر العربي والفكر الإنساني، على مفكري العرب ومفكري سائر الشعوب أن يحيوا ذكراه الألف، وفاء للانسان العظيم الذي شغلت المشكلة الانسانية جانبا عظيما من عبقريته، واستأثرت بمعظم هموم حياته وتفكيره؟...