بسر بأهل المدينة ما لم يفعله جبار من قبل - وقد كان كما وصفوه قاسي القلب فظا سفاكا للدماء لا رأفة عنده ولا رحمة - فروع أهلها وأنزل بهم من ألوان العذاب ما تقشعر منه النفوس، وتنخلع القلوب، من تقتيل وتنكيل وتحريق وهتك للحرمات، ولم يجد فيها مرحبا به، ولا معينا له، ولا راضيا عن جرائمه سوى أبي هريرة. الذي كان غاليا في مناصرة معاوية، وبعد أن أخرس الناس الرعب واستسلموا مرغمين، نادى فيهم وقال: " قد استخلفت عليكم (أبا هريرة)، فإياكم وخلافه ".
ولم يزل أبو هريرة قائما بولايته يصلى بالناس حتى قدم المدينة جارية بن قدامة السعدي من قبل أمير المؤمنين على في ألفي فارس، فلم يكد أبو هريرة يسمع بقدومه حتى ولى هاربا من وجه جارية، فقال جارية فيه كلمته المشهورة المحفوظة: " لو وجدت أبا سنور لقتلته " (أي أبا هريرة) ولم يكد يخلو له الجو ويتسق الامر لمعاوية بعد قتل الامام حتى عاد أبو هريرة فتولى أمر المدينة.
ولا ريب في أن الذي قذف الرعب في قلب أبي هريرة حتى لاذ بالفرار - تاركا صلاته وصلاة من معه - إنما هو الخوف والجزع من بطش جارية - أن يؤاخذه بما اقترف من الاثم مع بسر بن أرطاة عندما أغار على المدينة، فيفتك به ويجعله مثلا لغيره - ذلك بأن أبا هريرة كان وحده من بين أهلها جميعا الذي تشيع له، ورحب به، ومشى في ركابه وناصره عندما أخذ البيعة لمعاوية بقهره وجبروته.
ومن أجل ذلك كله خصه جارية - دون سواه من أهل المدينة - بتهديده، وأنه لو وجده لقتله، ولم يفعل جارية مثل ذلك مع أحد من أهل المدينة قاطبة غيره (1).
وتولية أبي هريرة للمدينة من قبل معاوية لولائه له (وعلى حي) أمر نص عليه جميع المؤرخين (2) ولهذه التولية ولا ريب معنى لا يخفى على اللبيب.