فلما لم يسغها سأل عن شأنها فأخبر بذلك فأمر بالتصدق بها، وتناول لقمة من الشاة المسمومة، فعرفنا أنه ما كان ينتظر الوحي عند كل أكلة. والذي يؤيد ما قلنا حكم الشهادات، فإن الله تعالى أمر القاضي بالقضاء بالشهادة، ومعلوم أن الاحتمال يبقى بعد شهادة شاهدين، فلو كان شرط وجوب العمل بالخبر انتفاء تهمة الكذب من كل وجه لما وجب على القاضي القضاء بالشهادة مع بقاء هذا الاحتمال.
فإن قيل: الشهادات لاظهار حقوق العباد وقد بينا أن هذا الشرط غير معتبر فيما هو من حقوق العباد. قلنا: كما يجب القضاء بما هو من حقوق العباد عند أداء الشهادة يجب القضاء بما هو من حقوق الله تعالى كحد الشرب والسرقة والزنا، ثم وجوب القضاء بالشهادة من حقوق الله تعالى حتى إذا امتنع من غير عذر يفسق، وإذا لم ير ذلك أصلا يكفر، إلا أن سببه حق العبد وبه لا يخرج من أن يكون حقا لله تعالى كالزكاة، فإنها تجب حقا لله تعالى بسبب مال هو حق العبد. وقد يترتب على خبر الواحد في المعاملات ما هو حق الله تعالى نحو الاخبار بطهارة الماء ونجاسته، والاخبار بأن هذا الشئ أهداه إليك فلان، وأن فلانا وكلني ببيع هذا الشئ، فإنه يترتب على هذا كله ما هو حق الله تعالى وهو إباحة التناول، فإن الحل والحرمة من حق الله، ولا يظن بأحد أنه لا يرى الاعتماد في مثل هذا على خبر الواحد فإنه يتعذر به على الناس الوصول إلى حوائجهم، ألا ترى أنه وإن أخبره أن العين ملكه ببيعه فمن الجائز أنه غاصب، وإذا ألجأته الضرورة إلى التسليم في هذا يقاس عليه ما سواه.
ويتبين به فساد اشتراط انتفاء تهمة الكذب عن الخبر للعمل به فيما هو من حق الله تعالى، وبهذا يتبين خطأ من زعم أن هذا عمل بغير علم، فإنه عندنا عمل بعلم هو ثابت من حيث الظاهر ولكنه غير مقطوع به، وقد سمى الله تعالى مثله علما فقال:
* (وما شهدنا إلا بما علمنا) * وإنما قالوا ذلك سماعا من مخبر أخبرهم به، وقال:
* (فإن علمتوهن مؤمنات) * وإنما قال ذلك باعتبار غالب الرأي واعتماد نوع من الظاهر، فدل على أن مثله علم لا ظن إنما الظن عند خبر الفاسق، ولهذا أمر الله بالتوقف في خبره