الرازي رحمه الله يقول هذا أحد قسمي المتواتر على معنى أنه يثبت به علم اليقين ولكنه علم اكتساب كما قال أصحاب الشافعي في القسم الآخر، وكان عيسى بن أبان رحمه الله يقول لا يكون المتواتر إلا ما يوجب العلم ضروريا، فأما النوع الثاني فهو مشهور وليس بمتواتر وهو الصحيح عندنا. وبيان هذا النوع في كل حديث نقله عن رسول الله (ص) عدد يتوهم اجتماعهم على الكذب ولكن تلقته العلماء بالقبول والعمل به، فباعتبار الأصل هو من الآحاد، وباعتبار الفرع هو متواتر، وذلك نحو خبر المسح على الخفين، وخبر تحريم المتعة بعد الإباحة، وخبر تحريم نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها، وخبر حرمة التفاضل في الأشياء الستة وما أشبه ذلك. أما أبو بكر الرازي كان يقول لما تواتر نقل هذا الخبر إلينا من قوم لا يتوهم اجتماعهم على الكذب فقد أوجب لنا ذلك علم اليقين وانقطع به توهم الاتفاق في الصدر الأول، لان الذين تلقوه بالقبول والعمل به لا يتوهم اتفاقهم على القبول إلا بجامع جمعهم على ذلك وليس ذلك إلا تعين جانب الصدق في الذين كانوا أهلا من رواته، ولكن إنما عرفنا هذا بالاستدلال فلهذا سمينا العلم الثابت به مكتسبا وإن كان مقطوعا به، بمنزلة العلم بمعرفة الصانع، ألا ترى أن النسخ يثبت بمثل هذه الأخبار، فإنه يثبت بها الزيادة على كتاب الله تعالى والزيادة على النص نسخ ولا يثبت نسخ ما يوجب علم اليقين إلا بمثل ما يوجب علم اليقين. وجه قول عيسى أن ما يكون موجبا علم اليقين فإنه يكفر جاحده كما في المتواتر الذي يوجب العلم ضرورة، وبالاتفاق لا يكفر جاحد المشهور من الاخبار، فعرفنا أن الثابت به علم طمأنينة القلب لا علم اليقين وهذا لأنه وإن تواتر نقله من الفريق الثاني والثالث فقد بقي فيه شبهة توهم الكذب عادة باعتبار الأصل، فإن رواته عدد يسير وعلم اليقين إنما يثبت إذا اتصل بمن هو معصوم عن الكذب، على وجه لا يبقى فيه شبهة الانفصال، وقد بقي هنا شبهة الانفصال باعتبار الأصل فيمنع ثبوت علم اليقين به، يقرره أن العلم الواقع لنا بمثل هذا النقل إنما يكون قبل التأمل في شبهة الانفصال، فأما عند التأمل في هذه الشبهة يتمكن نقصان فيه، فعرفنا أنه علم طمأنينة، فأما العلم الواقع بما هو متواتر بأصله وفرعه فهو يزداد قوة بالتأمل فيه،
(٢٩٢)