ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان وليعلم كيف كان الطير مسخرا له.
أما قوله: * (أحطت بما لم تحط به) * ففيه تنبيه لسليمان على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علما بما لم يحط به، فيكون ذلك لطفا في ترك الإعجاب والإحاطة بالشيء علما أن يعلم من جميع جهاته.
أما قوله: * (وجئتك من سبأ بنبأ يقين) * فاعلم أن سبأ قرىء بالصرف ومنعه، وقد روي بسكون الباء، وعن ابن كثير في رواية سبا بالألف كقولهم ذهبوا أيدي سبا وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرف، ومن جعله اسما للحي أو للأب الأكبر صرف، ثم سميت مدينة مأرب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، والنبأ الخبر الذي له شأن.
وقوله: * (من سبأ بنبأ) * من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ وشرط حسنه صحة المعنى، ولقد جاء ههنا زائدا على الصحة فحسن لفظا ومعنى، ألا ترى أنه لو وضع مكان (بنبأ) بخبر لكان المعنى صحيحا، ولكن لفظ النبأ أولى لما فيه من الزيادة التي يطابقها وصف الحال.
أما قوله: * (إني وجدت امرأة تملكهم) * فالمرأة بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك أرض اليمن وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس، والضمير في تملكهم راجع إلى سبأ، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر، وإن أريدت المدين فمعناه تملك أهلها.
وأما قوله: * (وأوتيت من كل شيء) * ففيه سؤال وهو أنه كيف قال: * (وأوتيت من كل شيء) * مع قول سليمان * (وأوتينا من كل شيء) * (النمل: 16) فكأن الهدهد سوى بينهما جوابه: أن قول سليمان عليه السلام يرجع إلى ما أوتي من النبوة والحكمة، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا، وأما قول الهدهد فلم يكن إلا إلى ما يتعلق بالدنيا.
وأما قوله: * (ولها عرش عظيم) * ففيه سؤال، وهو أنه كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ وأيضا فكيف سوى بين عرش بلقيس وعرش الله تعالى في الوصف بالعظيم؟ والجواب عن الأول: يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان فاستعظم لها ذلك العرش، ويجوز أن لا يكون لسليمان مع جلالته مثله كما قد يتفق لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله عند السلطان، وعن الثاني: أن وصف عرشها بالعظم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ووصف عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض، واعلم أن ههنا بحثين:
البحث الأول: أن الملاحدة طعنت في هذه القصة من وجوه: أحدها: أن هذه الآيات اشتملت على أن النملة والهدهد تكلما بكلام لا يصدر ذلك الكلام إلا من العقلاء وذلك يجر إلى السفسطة، فإنا لو جوزنا ذلك لما أمنا في النملة التي نشاهدها في زماننا هذا، أن تكون أعلم بالهندسة من إقليدس، وبالنحو من سيبويه، وكذا القول في القملة والصئبان، ويجوز أن يكون فيهم