الأمر على ما أخبر عنه سبحانه في قوله: * (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) * (ص: 72) فالتسوية إشارة إلى تعديل المزاج وتركيب الأمشاج، ونفخ الروح إشارة إلى اللطيفة الربانية النورانية التي هي من عالم الأمر، وأيضا قال: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * (المؤمنون: 12) ولما تمم مراتب تغيرات الأجسام قال: * (ثم أنشأناه خلقا آخر) * (المؤمنون: 14) وذلك إشارة إلى الروح الذي هو من عالم الملائكة، ولا شك أن الهداية إنما تحصل من الروح، فقد ظهر بهذه الآيات أن الخلق مقدم على الهداية.
أما تحقيقه بحسب المباحث الحقيقية، فهو أن بدن الإنسان إنما يتولد عند امتزاج المني بدم الطمث، وهما إنما يتولدان من الأغذية المتولدة من تركب العناصر الأربعة وتفاعلها، فإذا امتزج المني بالدم فلا يزال ما فيها من الحار والبارد والرطب واليابس متفاعلا، وما في كل واحد منها من القوى كاسرا سورة كيفية الآخر، فحينئذ يحصل من تفاعلهما كيفية متوسطة تستحر بالقياس إلى البارد وتستبرد بالقياس إلى الحار، وكذا القول في الرطب واليابس، وحينئذ يحصل الاستعداد لقبول قوى مدبرة لذلك المركب فبعضها قوى نباتية وهي التي تجذب الغذاء، ثم تمسكه ثم تهضمه ثم تدفع الفضلة المؤذية، ثم تقيم تلك الأجزاء بدل ما تحلل منها، ثم تزيد في جوهر الأعضاء طولا وعرضا، ثم يفضل عن تلك المواد فضلة يمكن أن يتولد عنها مثل ذلك، ومنها قوى حيوانية بعضها مدركة كالحواس الخمس والخيال والحفظ والذكر، وبعضها فاعلة: إما آمرة كالشهوة والغضب أو مأمورة كالقوى المركوزة في العضلات، ومنها قوى إنسانية وهي إما مدركة أو عاملة، والقوى المدركة هي القوى القوية على إدراك حقائق الأشياء الروحانية والجسمانية والعلوية والسفلية، ثم إنك إذا فتشت عن كل واحدة من مركبات هذا العالم الجسماني، ومفرداتها وجدت لها أشياء تلائمها وتكمل حالها وأشياء تنافرها وتفسد حالها، ووجدت فيها قوى جذابة للملائم دفاعة للمنافي، فقد ظهر أن صلاح الحال في هذه الأشياء لا يتم إلا بالخلق والهداية. أما الخلق فبتصييره موجودا بعد أن كان معدوما، وأما الهداية فبتلك القوى الجذابة للمنافع والدفاعة للمضار فثبت أن قوله: * (خلقني فهو يهدين) * كلمة جامعة حاوية لجميع المنافع في الدنيا والدين، ثم ههنا دقيقة وهو أنه قال: * (خلقني) * فذكره بلفظ الماضي وقال: * (يهدين) * ذكره بلفظ المستقبل، والسبب في ذلك أن خلق الذات لا يتجدد في الدنيا، بل لما وقع بقي إلى الأمد المعلوم. أما هدايته تعالى فهي مما يتكرر كل حين وأوان سواء كان ذلك هداية في المنافع الدنيوية، وذلك بأن تحكم الحواس بتمييز المنافع عن المضار أو في المنافع الدينية وذلك بأن يحكم العقل بتمييز الحق عن الباطل والخير عن الشر، فبين بذلك أنه سبحانه هو الذي خلقه بسائر ما تكامل به خلقه في الماضي دفعة واحدة، وأنه يهديه إلى مصالح الدين والدنيا بضروب الهدايات في كل لحظة ولمحة وثانيها: قوله: * (والذي هو يطعمني ويسقين) * وقد دخل فيه كل ما يتصل بنافع الرزق، وذلك لأنه سبحانه إذا خلق له الطعام وملكه، فلو لم يكن معه ما يتمكن به من أكله والاغتذاء به نحو الشهوة والقوة