اعلم أنه تعالى لما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالإنذار والتبليغ، وأمر القوم بالقبول والمتابعة ذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة والإعراض عنها من الوعيد، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الزجاج: موضع كم رفع بالابتداء وخبره أهلكناها. قال: وهو أحسن من أن يكون في موضع نصب لأن قولك زيد ضربته أجود من قولك زيدا ضربته، والنصب جيد عربي أيضا كقوله تعالى: * (إنا كل شيء خلقناه بقدر) *.
المسألة الثانية: قيل: في الآية محذوف والتقدير: وكم من أهل قرية ويدل عليه وجوه: أحدها: قوله: * (فجاءها بأسنا) * والبأس لا يليق إلا بالأهل. وثانيها: قوله: * (أو هم قائلون) * فعاد الضمير إلى أهل القرية. وثالثها: أن الزجر والتحذير لا يقع للمكلفين إلا بإهلاكهم. ورابعها: أن معنى البيات والقائلة لا يصح إلا فيهم.
فإن قيل: فلماذا قال أهلكناها؟ أجابوا بأنه تعالى رد الكلام على اللفظ دون المعنى كقوله تعالى: * (وكأين من قرية عتت) * (الطلاق: 8) فرده على اللفظ. ثم قال: * (أعد الله لهم) * (الأحزاب: 25) فرده على المعنى دون اللفظ، ولهذا السبب قال الزجاج: ولو قال فجاءهم بأسنا لكان صوابا، وقال بعضهم: لا محذوف في الآية والمراد إهلاك نفس القرية لأن في إهلاكها بهدم أو خسف أو غيرهما إهلاك من فيها، ولأن على هذا التقدير يكون قوله: * (فجاءها بأسنا) * محمولا على ظاهره ولا حاجة فيه إلى التأويل. المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: قوله: * (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا) * يقتضي أن يكون الإهلاك متقدما على مجيء البأس وليس الأمر كذلك، فإن مجيء البأس مقدم على الإهلاك والعلماء أجابوا عن هذا السؤال من وجوه: الأول: المراد بقوله: * (أهلكناها) * أي حكمنا بهلاكها فجاءها بأسنا. وثانيها: كم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا كقوله تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) * (المائدة: 6) وثالثها: أنه لو قال وكم من قرية أهلكناها فجاءهم إهلاكنا لم يكن السؤال واردا فكذا ههنا لأنه تعالى عبر عن ذلك الإهلاك بلفظ البأس. فإن قالوا: السؤال باق، لأن الفاء في قوله: * (فجاءها بأسنا) * فاء التعقيب، وهو يوجب المغايرة. فنقول: الفاء قد تجيء بمعنى التفسير كقوله عليه الصلاة والسلام: " لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ويديه " فالفاء في قوله فيغسل للتفسير، لأن غسل الوجه واليدين كالتفسير لوضع الطهور مواضعه. فكذلك ههنا البأس جار مجرى التفسير، لذلك الإهلاك، لأن الإهلاك، قد يكون بالموت المعتاد، وقد يكون بتسليط البأس والبلاء عليهم، فكان ذكر البأس تفسيرا لذلك الإهلاك. الرابع: قال الفراء: لا يبعد أن يقال البأس والهلاك يقعان معا كما يقال: أعطيتني فأحسنت، وما كان الإحسان بعد الإعطاء