رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا رضي الله عنه إلى اليمن قاضيا وبعث عتاب بن أسيد رضي الله عنه إلى مكة قاضيا وقلد النبي عليه الصلاة والسلام كثيرا من أصحابه رضى الله تعالى عنهم الاعمال وبعثهم إليها وكذا الخلفاء الراشدون قضوا بأنفسهم وقلدوا غيرهم فقلد سيدنا عمر رضي الله عنه شريحا القضاء وقرره سيدنا عثمان وسيدنا علي رضي الله عنهما (وأما) جواز الترك فلما روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال لأبي ذر رضي الله عنه إياك والامارة وروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لا تتأمرن على اثنين وروى أن أبا حنيفة رضي الله عنه عرض عليه القضاء فأبى حتى ضرب على ذلك ولم يقبل وكذا لم يقبله كثير من صالحي الأمة وهذا معنى ما ذكر في الكتاب دخل فيه قوم صالحون وترك الدخول فيه قوم صالحون ثم إذا جاز الترك والقبول في هذا الوجه اختلفوا في أن القبول أفضل أم الترك قال بعضهم الترك أفضل وقال بعضهم القبول أفضل احتج الفريق الأول بما روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال من جعل القضاء فقد ذبح بغير سكين وهذا يجرى مجرى الزجر عن تقلد القضاء احتج الفريق الاخر بصنع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين وصنع الخلفاء الراشدين لان لنا فيهم قدوة ولان القضاء بالحق إذا أراد به وجه الله سبحانه وتعالى يكون عبادة خالصة بل هو من أفضل العبادات قال النبي المكرم عليه أفضل التحية عدل ساعة خير من عباده ستين سنة والحديث محمول على القاضي الجاهل أو العالم الفاسق أو الطالب الذي لا يأمن على نفسه الرشوة فيخاف أن يميل إليها توفيقا بين الدلائل هذا إذا كان في البلد عدد يصلحون للقضاء فأما إذا كان لم يصلح له الا رجل واحد فإنه يفترض عليه القبول إذا عرض عليه لأنه إذا لم يصلح له غيره تعين هو لإقامة هذه العبادة فصار فرض عين عليه الا أنه لابد من التقليد فإذا قلد افترض عليه القبول على وجه لو امتنع من القبول يأثم كما في سائر فروض الأعيان والله سبحانه وتعالى أعلم * (فصل) * وأما شرائط القضاء فأنواع بعضها يرجع إلى القاضي وبعضها يرجع إلى نفس القضاء وبعضها يرجع إلى المقضى له وبعضها يرجع إلى المقضى عليه (أما) الذي يرجع إلى القاضي فما ذكرنا من شرائط جواز تقليد القضاء لان من لا يصلح قاضيا لا يجوز قضاؤه ضرورة (وأما) الذي يرجع إلى نفس القضاء فأنواع منها أن يكون بحق وهو الثابت عند الله عز وجل من حكم الحادثة اما قطعا بان قام عليه دليل قطعي وهو النص المفسر من الكتاب الكريم أو الخبر المشهور والمتواتر والاجماع واما ظاهرا بان قام عليه دليل ظاهر يوجب علم غالب الرأي وأكثر الظن من ظواهر الكتاب الكريم والمتواتر والمشهور وخبر الواحد والقياس الشرعي وذلك في المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها الفقهاء رحمهم الله والتي لا رواية في جوابها عن السلف بان لم تكن واقعة حتى لو قضى بما قام الدليل القطعي على خلافه لم يجز لأنه قضاء بالباطل قطعا وكذا لو قضى في موضع الخلاف بما كان خارجا عن أقاويل الفقهاء كلهم لم يجز لان الحق لا يعد وأقاويلهم فالقضاء بما هو خارج عنها كلها يكون قضاء باطلا قطعا وكذا لو قضى بالاجتهاد فيما فيه نص ظاهر يخالفه من الكتاب الكريم والسنة لم يجز قضاؤه لان القياس في مقابلة النص باطل سواء كان النص قطعيا أو ظاهرا وأما فيما لا نص فيه يخالفه ولا اجماع النقول لا يخلو (اما) إن كان القاضي من أهل الاجتهاد (واما) ان لم يكن من أهل الاجتهاد فإن كان من أهل الاجتهاد وأفضى رأيه إلى شئ يجب عليه العمل به وان خالف رأى غيره ممن هو من أهل الاجتهاد والرأي ولا يجوز له أن يتبع رأى غيره لان ما أدى إليه اجتهاده هو الحق عند الله عز وجل ظاهرا فكان غيره باطلا ظاهرا لان الحق في المجتهدات واحد والمجتهد يخطئ ويصيب عند أهل السنة والجماعة في العقليات والشرعيات جميعا ولو أفضى رأيه إلى شئ وهناك مجتهد آخر أفقه منه له رأى آخر فأراد أن يعمل برأيه من غير النظر فيه وترجح رأيه بكونه أفقه منه هل يسعه ذلك ذكر في كتاب الحدود أن عند أبي حنيفة يسعه ذلك وعندهما لا يسعه الا أن يعمل برأي نفسه وذكر في بعض الروايات هذا الاختلاف على العكس فقال على قول أبي حنيفة لا يسعه وعلى قولهما يسعه وهذا يرجع لي أن كون أحد المجتهدين أفقه من غير النظر في رأيه هل يصلح مرجحا من قال يصلح مرجحا قال يسعه ومن قال
(٤)